روايات النساء حول التهجير عام 1948
نشر بتاريخ: 2025-05-14 الساعة: 02:51
الكاتب: فيحاء عبد الهادي
تنفتح الحكايات على الحكايات، والجروح على الجروح، والنكبات على النكبات، والإبادة على الإبادة، ولا نكفّ أن نروي حكاياتنا، ونقاوم إبادتنا، ونستمرّ في حمل روايات جداتنا وأجدادنا، أمهاتنا وآبائنا، شاباتنا وشبابنا، في قلوبنا وعقولنا، وفي الحفاظ على ذاكرتهم حيّة، مهما اشتدت العواصف، ومهما مرّ من محن.
يختلط الماضي بالحاضر بالأمل بمستقبل خالٍ من النكبات والحروب والعنصرية وألوان التمييز كافة، على الصعد السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والإنسانية.. من غزة إلى جنين إلى طولكرم، إلى نابلس، إلى كل قرية ومدينة ومخيم فلسطيني، على امتداد أرض فلسطين.
وحين تروي المرأة الفلسطينية عن النكبات المتتالية التي عاشتها، منذ النكبة الأولى عام 1948، أمّ النكبات، تحكي عن الماضي بحنين يمسّ شغاف القلب، وعن الحاضر بأسى يفتِّت القلب، دون أن يغيب عنها توجيه سهام النقد للعوامل الذاتية والموضوعية، التي تتسبَّب في ضعف استجابة الشعب الفلسطيني، وقواه الحية، للتحديات الكبرى التي تواجه القضية الفلسطينية.
تروي النساء الفلسطينيات عن معاناتهن على الصعيد العام والخاص، منذ سبعة وسبعين عاماً، وعن مقاومتهن المتواصلة، لشروط قهرهن الجماعي والفردي، دون كلل أو ملل.
*****
حكت «لطيفة خليل معروف»، المولودة في دير القاسي/عكا، عام 1930، عن تفاصيل تهجيرها صبية من قريتها إلى عيتا إلى بعلبك في لبنان، في الشهر العاشر من عام 1948، إثر إنذار الجيش الإسرائيلي لعائلتها بالإخلاء أو الموت. «طلع الطيران علينا، يحوم ويقتل، وصاروا يحاكوا العالم بالمكروفون إنها تطلع، اللي عنده دابة يحمل شوية أغراض، ويطلع على رميش، على بنت جبيل، آخر شي جابوا سيارات وصاروا يفرّقوا العالم. خيرنا كله ضلّ». خرجت عائلة لطيفة من بيتها دون أن يحمل أفرادها أي وثيقة رسمية، ودون أن يقفلوا باب البيت، «تركناها مفتوحة، حدا كان يسكِّر بيت؟!»، حملوا فقط مخدات ولحفاً وفرشات، وتنكة زيت زيتون.
حملت «لطيفة معروف» تنكة زيت الزيتون على رأسها، ومشت مع عائلتها بالوعور، وفي الليل، دون توقف، تحت قصف الطيران الإسرائيلي، وإحساس الرعب، لسيرها بين جثث القتلى/ الشهداء، نتيجة القصف.
نزلت مع عائلتها إلى خط العين، ومنه إلى الجبل، ومنه إلى شارع الشمالي، إلى عيتا، وبعد أربعة أيام إلى صور، إلى الميّه ميّة، وبعد شهر إلى بعلبك، حيث تزوجت هناك واستقرّت مع عائلتها مدة ست سنوات.
سكنت مع والدتها ووالدها وشقيقتها وشقيقها وعائلته في غرفة واحدة، ووضعوا بينهم بطانيات، وبدؤوا جميعاً يبحثون عن عمل، «المرا لازم تشتغل والزلمة لازم يشتغل». عملت لطيفة بالحقل وفي الباطون، بأجر زهيد: ليرة ونصف الليرة في اليوم، «صرنا نشتغل للنسوان البعلبكية، طول النهار نحلش (ننظف الزرع من الحشيش) بالحقلة بالإجار، تطلع النسوان تشتغل بالزبل، وتطِّيِّن الحيطان، ومضّينا هالعمر، تعزَّبنا كتير، والله من يوم ما طلعت ما شفت يوم منيح».
وحين تحدثت بمرارة عن عملها المضني في بعلبك، بعد التهجير، لم تملك سوى أن تقارن بينه وبين عملها مع صبايا قريتها في وطنها، حين كنّ يذهبن على ظهور الدواب إلى سحماتا وترشيحا والكابري، لزراعة الدخان، وقطفه، وانتظاره حتى ينشف، لشكّه في الخيطان الطويلة، ليستلمه رجال القرية، ويضعوه في أكياس خيش، ويبيعوه في حيفا وعكا.
ولم تعمل لطيفة في زراعة وشكّ الدخان فحسب، بل عملت مع والدها في دير القاسي، في زراعة الحمص، وزراعة القمح وحصاده ودرسه، وفي زراعة وحصاد الشعير والعدس والكرسنّة، ولخَّصت مشاعرها حول ذكرياتها في جملة من كلمتين: «كنا مكيّفين». ووصفت كيف كانت وأهل القرية متكاتفين ومتعاونين ومكتفين بخير بلادهم، حيث كانت النساء تحلب البقر، وتشرب الحليب الطازج، وتروّب منه اللبن، وتصنع اللبنة، وتكبسها، وتضعها في زيت الزيتون كي تخزِّنها، وتكبس الزيتون، وتخزِّنه، ما لم يعرِّض أهل القرية للجوع يوماً.
وفي غياب البهجة والفرح في البلاد التي هجّرت إليها، تذكر ولا تنسى مشاركتها مع صبايا وشباب القرية في أفراح قريتها، خاصة في فرح شقيقها يوسف، حين شارك في زفافه معارف العائلة من سحماتا وترشيحا والكابري وفسوطة، حيث رقص الشباب بالسلاح وغنوا، بينما زفّ مع عروسه على ظهر الخيل.
ومن بعلبك انتقلت لطيفة مع عائلتها إلى مخيم تل الزعتر، حيث عانت الأمرّين حين قُتل زوجها، وابنها، وخالاها الاثنان، أثناء المجزرة المروّعة، التي حدثت في المخيم، في آب 1976 «علواه ماتوا بفلسطين!» انتقلت بعدها إلى مخيم الرشيدية، حيث عمَّرت وكالة غوث اللاجئين «الأونروا» بيوتاً سقفها زينكو للاجئين الفلسطينيين، لتبقى مدة سنة، وبعدها عادت إلى بيروت لتسكن في مخيم مار إلياس، وتبقى فيه حتى الآن.
وقبل وصولها الرشيدية، وحين مرورها من الحاجز، وجدت زوجها ممدداً على الأرض، جثة هامدة، ولم تعرف كيف قتل؟ ولماذا؟ وابنها الذي يبلغ من العمر ستة عشر عاماً قتل في المخيم قبل والده. لم تستطع لطيفة حمل زوجها، ولم تدرِ ما الذي حلّ بجثته! «الله أعلم هِنّي حرقوه! هِنّي دَمَلوهم! وهالو عليهم التراب، الله أعلَم شو عِملوا فيهم! قضّينا كتير».
*****
بالإضافة إلى مشاركة المرأة الفلسطينية في تدبير أمور العائلة الاقتصادية، بعد تهجيرها عام 1948، كانت لها مشاركة فاعلة في العمل السياسي بأشكاله. تحدثت لطيفة عن عدد من النساء الفاعلات الشجاعات، منهن من التحقن بالمقاومة، وحملن السلاح مثل الرجال. حفظت ذاكرتها منهن اسم «زهية أورفلي»، أم أشرف، من الجاعون، وهي فدائية شجاعة «كانت قوية ورجّالية. ماتت بعزّ صباها يا ويلي!»، كان ابنها مع الفدائية، وكانت تؤمِّن الطعام والشراب للفدائيين في تل الزعتر.
*****
رغم مرارة الأيام، والنكبات المتتالية، التي عاشها وما زال يعيشها الشعب الفلسطيني، ما زالت «لطيفة معروف» تحتضن الأمل بالعودة إلى فلسطين: «علواه! علواه! علواه! من إسّا يقولولي: قومي روحي على فلسطين، لاحمل حالي وأكرّ على فلسطين. علواه ترجع فلسطين! ما رجعنا إحنا يرجعوا أولادنا».
هو إيمان الشعب الفلسطيني بالحق، والعدالة، والأمل بالعودة، بل اليقين بحتميتها، مهما اسودّت الأيام، ومهما طال الزمن.
mat