الرئيسة/  ثقافة

"وارث الشواهد" لوليد الشرفا النقض السردي لروايات" الألوهية "

نشر بتاريخ: 2017-10-21 الساعة: 11:15


رام الله- اعلام فتح- صدرت مؤخرا، رواية" وارث الشواهد"لاستاذ الاعلام في جامعة بير زيت وليد الشرفا ، وقد اجرى الباحث المتخصص بالاصوليات د. جمال ابو الرب قراءة عميقة للرواية التي رأى انها تشتغل بتفكيك الروايات التي تزاوجت مع المقدس الالهي لتنتج مقولاتها الخاصة: ويقتبس ابو الرب من رينيه جيرار قوله"إن المقدس عنف، ولأنه كذلك فهو متمايز عن الدين". ويتابع ابو الرب قراءته بالقول:
تشتغل رواية وارث الشواهد للروائي الفلسطيني وليد الشرفا بتفكيك الروايات التي تزاوجت مع المقدس الإلهي لتنتج مقولاتها الخاصة. وقد حصر هذه الروايات بتجسد بالجغرافيا المقدسة، والمحبة المقدسة، وتنصيص النص المقدس كمؤسسات وخطابات دينية، جاعلة من محنة الضحايا استحقاقا إلهيا. وقد أدخلت دوامة الروايات هذه الوحيد بطل الرواية ابن الشهيد المهجر جده وأبوه وأمه عن عين حوض قرب حيفا في التيه والتعب "بعد أن استجاب اليهود لدعوة الرب بعد ثلاثة آلاف عام بقتل جيرانهم، هذه الرواية ستدخل (الوحيد في التيه والتعب). ربما على الروايات المنسوبة للرب جلها".

تفكيك الروايات المقدسة
المكان حالة إمتداد فسيح غير مشحون، وكل نتف له إسقاط لأدلجة عبر تعريفه بحكايات سردية عليا تنتج هويته المغايرة، ولعل أخطر الأدلجات تلك التي تصيغ رؤيتها للمكان بحبل يمتد إلى السماء، وعلى المستوى الأرضي يمد أذرعته كأخطبوط. وهو إذ يفعل ذلك لا يغفل أن يحدث عتبة وقسمة بين الإلهي وغير الإلهي، فيلقي على عاتق الطقوس تكوين المعنى الإلهي للإخضاع والسيطرة على الإنسان الذي يضل وجود ذاته خارج البعد الرمزي. وتصبح العتبة هي الطريقة التي يرى فيها ذاته والعالم فمن يعتبها يلج مركز العالم والوجود والجماعة مقيما القسمة بدوره بين المقدس والمدنس، الإلهي والأرضي، فالداخل يعني الولوج إلى المركز، والخارج يعني الضياع واللامعنى. بهذه الكيفية يفقد المكان حياده ويصبح متورطا ومورطا، يصبح سلطة. ودربا مقدسا لإنتاج العنف والضحايا باسم الرب والدين؛ لأنه قدم نفسه على أنه مطلق التجلي للعالم الديني. وكل تخليص للزمان من فعل الأدلجة وحكاياتها السردية العليا هو تحرير للإله والمكان والإنسان والتاريخ من الأسر والولادات القيصرية فيه.
يمكن مقاربة رواية الشرفا للجغرافيا المقدسة التي أنتجت دينا وعرقا توراتيا من الفهم السابق للمكان المقدس إذ يقول الطبيب صديق الوحيد في الرواية " وحدها تلقيحات روايات الرب في عقول اليهود تحولت إلى عرق، وبعد اختراع البارود تحولت إلى جغرافيا، فسبحان الرب!". ومن لفظة ( الإسراف)، تلك اللفظة التي يحصرها بطاي على الأشكال غير المنتجة التي يتحكم فيها مبدأ الضياع والفقدان، ويتجسد في المجال الطقوسي في التضحية التي هي إسراف وتبديد دم للناس، فالتضحية ليست شيئا سوى إنتاج للأشياء المقدسة، ولأن الأمر كذلك يصبح المقدس ذاته مبنيا على مبدأ الضياع والفقدان. وأن الهبة كتضحية تفرض على الموهوب أن يرفع قيمة رده للهبة لرفع التحدي والاحتقار على نحو يسمح باستعادة الكرامة. فالاله في الرواية التوراتية يدخل في صراع مع يعقوب الذي يصرعه، ويعفو عنه، فيرفع الإله التوراتي قيمة رد الهبة، ومن أجل رفع التحدي والاحتقار واستعادة الكرامة يدخل الإله التوراتي في باب التضحية التي تفقده وجوده الرمزي والمادي ويتحول إلى حالة إخضاع، فيلِج كالإله في الضياع والخسران، ويهب يعقوب النبوة وأرضا يعده بها له ولنسله. وبذا يكون التأريخ لأرض الميعاد هو تأريخ لجغرافيا ولجت عتبة القدسية، هو في الوقت ذاته تأريخ للضحايا المرجأة والمتحققة. يقول الوحيد واصفا التشويه الذي تحدثه رواية الجغرافيا المقدسة في الإله والإنسان " إن والدتي وجدي ووالدي وأنا كنا ضحية رؤية حام لعورة والده نوح منذ أيام الطوفان العظيم، وأن رواية الأنبياء ستتحول إلى رواية للشواذ، وتجار النساء، وصانعي العجول الذهبية، والمتلذذين بطعم الدم". ويقول عن عذاب أمه نتيجة لروايات الرب التي أورثتها الحزن والألم بدلا من السكينة والطمأنينة " من يعتذر لهذه الأم، ويكفر عن خطاياه معها؟". ويقول في زنزانته في دالية الكرمل: " والآن تنشف جروحي، وأسمع القهقهات وبعض الكلمات العبرية عن (إسرائيل). تحس بجوارك قبور أجدادك الثلاثة، والبيت الذي ولد فيه أبوك، تفكر كيف استبدل اسم يعقوب الذي تبع أخاه عيسو عن الولادة؟ وكيف أعقب عيسو وأمسك بعقبه؟ وكيف تغير اسمه إلى إسرائيل" يسرا" بمعنى المناضل أو المصارع مع الاله، وسيكون ( أيل) وهو الرب، فتصبح ( إسرائيل) الدولة النبي الذي صارع الاله أو صرعه، ومنذ ذلك اليوم سأسمع هذا الكلام، وسأعلم أن ( الدولة) النبي ستقيم قرية للفنانين في بلد أهلي، فنانون يرثون الحكاية والجمال، ويعلمون الناس الإنسانية والمحبة والوفاء". ويقول مخاطبة جده بعد أن مات وأخذ جثته لزيارة عين حوض، وهو يشم طعم الموت المنبعث من برودة جسد جده ورائحة الأدوية:" أنت وأنا وأمي متنا ثمنا لتاريخ الله، وثمنا لهلوسات متحجرة لما رأى حام عورة والده نوح جدهم الطاهر!".
والوحيد إذ يفكك روايات الرب التي حولت التاريخ إلى لحظة قداسة، وبها كانت معجزته، فإن لعنة الروايات تصيب الطبيب بشارة الذي للمرة الأولى سيعيش " الأمراض التي تنتج عن التاريخ، وعن العلاقة بين تلقيح الجنين في رحم امرأة، وتلقيح الأسطورة من روايات الرب في عقول البشر، إذ كيف للأسطورة أن تنتج عرقا؟". لقد اكتشف الطبيب أنه مريض بالمحبة، وأن الدماء التي سالت من الوحيد حين ضربه الشرطي هي التي كشفت أعراض مرض الطبيب بشارة، وقد أورثه ذلك الشك، وصادر منه حالة "التوازن والتصالح مع النفس التي تربيت عليها طيلة سني عمري، ولم تعد عبارات المحبة والأب والابن تفرض السكينة علي، لقد أصابتني لعنة الوحيد... إن سؤال العدالة أهم من سؤال المحبة يا بشارة، فاسأل نفسك وربك عن رواية الحقيقة، فربما كان ابن الاله أو خادم الاله أو عبد الله! ومن يدفن أباه ليس كمن يرثه". فمن يدفع الثمن باسم الرب هم الضحايا التي تدفن آباءها، والروايات ترث ربها.
ويوغل بشارة في تفكك الروايات المنسوبة للرب نحو تبني دين الحالة، وهو الديني الفلسطيني الذي بشر فيه الوحيد، والذي يُخلص المقبرة والمسجد والقسام من الروايات الدينية جميعها، ويجعلها دينا جديدا يدعى دين الحالة الفلسطينية، فحينما يقترب بشارة من مسجد الاستقلال في حيفا ويراقب شواهد القبور يقول" أنا وهذه المقبرة وهؤلاء الأموات هم السكان الأصليون، وهم سؤال العدالة يا وحيد. أقرأ الفاتحة على الأموات أنا المسيحي... فأنا أريد أن أكون فلسطينيا على طريقتهم لأنهم أموات، ولأنهم . أكثر أصالة مني". ويتابع :" على اليسار من سور المقبرة يمتد درج مسجد الاستقلال، مسجد عز الدين القسام، للمرة الأولى أذكره دون أن أهتم إن كان مسلما أو مسيحيا أو سوريا أو غير ذلك، لقد كان فلسطينيا وكفى. صدقت أيها الوحيد الدين الفلسطيني دين الحالة".
لقد اكتشف بشارة أنه كان معطلا برواية المحبة، التي منحته السكينة والتوازن وجعلت تاريخ الاله (تاريخ إسرائيل) فيه أو هو في تاريخ الاله، فبدأ بالشك يفكك هذه الرواية والمحبة معا، بعد أن اكتشف بأنه كان" فلسطينيا معطلا، ومسيحيا مرتبكا" فالداء في رواية المحبة التي عطلته كفلسطيني، وتفكيك الرواية عودة للذات في لحظة اكتشاف وتعرف وتصالح، فيكتشف بشارة نفسه بعيدا عن الله، وهو ما مكنه أن يعرف أن ( البوعاليم والأشف) هم بوعي جديد لبشارة " أنا والوحيد".

ويواصل الطبيب في تفكيك رواية المحبة وزيفها، ويصفها وهما وهلوسة، ويضعها كمعادل موضوعي للفتاة اليهودية التي حلم بها بشارة شابا وهو يعمل مع خاله في النجارة، فقد وغازل الفتاة لثمانية عشر يوما من شباك العمارة التي يعمل فيها ليكتشف حين ذهب إلى بيتها بأنها رجل، وأنه عاش محض حلم وهلوسات، واستمناء " فالمحبة كانت نهدا مزورا، كانت تلقيحا كاذبا".
ويطالب بشارة الاله بأن لا يصمت أمام الشرور التي تقترف في فلسطين باسمه، وعلى مرآى عينيه قائلا له:" لا تصمت أمام الدم الذي يراق باسمك، ساعدني يا يسوع، ساعدني يا محمد دون غواية الروايات واحتمالاتها، أليست فلسطين أرضك هي التي خلقت الروايات؟ فلماذا تدفع ثمنها وتقف صامتا أمام أمراض البشر باسمك؟ صدقت أيها الوحيد حين قلت: في اليهودية يجب أن تكره وتقتل لتؤمن، وفي الإسلام يجب أن تقرأ التاريخ، وفي المسيحية يجب أن تكون فيلسوفا، فماذا يفعل الطيبون والأميون والبسطاء؟"... " لقد توحد الأنبياء مع الله في السماء، وتجمعوا هنا ( في فلسطين) ضده".
وفي حوار الوحيد مع زوجته ريبكا قام بتعرية الزمني التاريخي، وما أنتجه من روايات كاذبة سواء باسم الرب الذي تحولت الرواية عنه إلى حالة البشاعة والقتل، كذلك قام بتفكيك الروايات باسم تقديس العقل والعلم والحضارة الغربية المعاصرة اللواتي ظللن أوفياء لتاريخ هلوسات الروايات الدينية طوال الوقت، فقد قال لـ (ريبكا) :" بأنه يريد تقديم أطروحة نهائية عن التاريخ تحلل سلسلة التقديس التي بدأت من تقديس الجغرافيا اليهودية، ومن ثم تقديس الإنسان وتأليهه في المسيحية، وبعدها تقديس النص في الإسلام، وصولا إلى إدعاء تقديس العقل والعلم في الحضارة الغربية المعاصرة.... إذ كيف لحضارة تقول أنها ختمت التاريخ وتدعي فلسفة العلم والتقدم والاشتراكية...أن ترعى تشريد شعب آخر وقتله وإقامة دولة دينية استجابة لوعد الرب بعد أن صرعه نبي حسب الروايات التوراتية قبل آلاف السنين؟ وتحدث في أطروحته عن الروايات الدينية التي لعبت الدور الأخطر في تشكيل الهوية الغربية حسب رأيه، لم تغادر صكوك الغفران، وإنما نقلتها جغرافيّا مرتين: مرة عندما أفنى الإسبان السكان الأصليين الذين أطلق عليهم اسم ( الهنود الحمر) باسم الرب المسيح الذي تحول إلى آلة قتل وهو الفلسطيني المنشأ. ومرة عندما سمح لليهود بإلغاء تاريخ الفلسطينيين وطردهم وتقتيلهم لأمر ما قبل المسيح. لقد كانت السكينة والسلام تاريخا حلميا، بينما كان الدم والقتل تاريخا متحققا".
ويختم الوحيد تحليل الروايات بالوجع الفلسطيني الذي وظف الرواية الديني في مجال المصلحة السياسية، إذ تقول أم الوحيد لجوليانا ابنة بشارة : " بعد شوية بتشوفي الناس اللي خارجين من صلاة العشاء، ما أكثرهم! هون بصلوا، وبقتلوا بعض هناك، حسرتي عليهم، وحسرتي على فلسطين ما ضل فيه اكبار ومؤمنين".
وبذا، تمكن الروائي وليد الشرفا من خلال روايته وارث الشواهد أن يقدم نقدا للمؤسسة الدينية المنتجة للروايات التاريخية، والتي غيّبت حضور الله في خطابها، واستبدلته بتوظيف سياسي تمكن من إنتاج تصور لإله منحاز وقاتل ومتآمر ومنتج للضحايا في كل حين.
ووليد الشرفا من مواليد نابلس، وهو روائي وأستاذ للإعلام والدراسات الثقافية في جامعة بير زيت، حاصل على الماجستير في أطروحته حول بواكير السردية العربية عام 2000، وحاصل على الدكتوراة في أطروحته( الخطاب عند إدوارد سعيد)، وتتمركز اهتماماته حول السرد وثقافة الصورة والاستشراق. أصدر نصه الروائي الأول خلال المرحلة الثانوية بعنوان: محكمة الشعب عام 1991.

وقد صدر له مجموعة من الكتب والروايات:* القادم من القيامة: رواية. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر. 2013.*الجزيرة والإخوان: من سلطة الخطاب إلى خطاب السلطة( دراسات- إعلام). بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر. 2013.* إدورد سعيد وتنسخ الاستشراق ( دراسات- فكر). المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2016.

far
Developed by: MONGID | Software House الحقوق محفوظة مفوضية الإعلام والثقافة © 2024