الرئيسة/  ثقافة

جزء مؤلم من حكاية" .. غرائبية أمير تاج السر تضفي على الشخصيات العنيفة سحراً خاصاً

نشر بتاريخ: 2018-10-23 الساعة: 12:49

رام الله- الايام- كتلك الشخصيات التي عجت بها أفلام هوليوود العجائبية ذات النكهة "الفنتازية"، تظهر شخصيات رواية "جزء مؤلم من حكاية" للروائي السوداني أمير تاج السر، الصادرة حديثاً عن "هاشيت أنطوان" (نوفل).

وعلى رأس هذه الشخصيات شخصيتا "ديباج" الفارسي و"مرحلي" (سارق الأرواح) الذي لعب دور الراوي، وإلى جانبهما "سلاملي الكذاب" وزوجته وطفله، و"الياطور حسن"، وغيرهم، كما توسعت الغرائبية لتشمل مجتمعات بأكملها كقرية العميان الهامشية فيما يتعلق بالبطولة المكانية التي توزعت على مملكتي "طير"، و"قير" المتخيلتين.

وتظهر "الفنتازية" أيضاً في تكنيك الرواية، التي شطر أمير تاج السر نهايتها إلى قسمين، ابتدأ بأحدهما، وختم بالأخرى، فلم يعتمد تقنية الاستعادة (الفلاش باك) بشكلها المألوف، كما ابتعد في الوقت ذاته على السرد الكلاسيكي المتسلسل، ففي مملكة "طير"، سبتمبر 1750 تكون بداية النهاية، وفي ذات المملكة وذات التاريخ يكون منتهاها، وما بينها "سنوات سابقة في مملكة قير".

ومن أجواء "بداية النهاية"، الفصل الأول للرواية .. "حين وصلت إلى نزل الأخوات، كنت أحمل بيدي اليسرى حقيبة قماشية بيضاء تحوي ملابسي القليلة، وبعض أغراضي التي أستخدمها في العمل من أدوات حادة، وقنان صغيرة فيها سوائل قاتمة وشفافة، وتلك الرسالة المطوية التي تسلمتها معها، قبل السفر بساعة واحدة فقط، وقد خيطت بعناية في قاعها، وأمرت بأن لا أمسّها، أو أتحاوم بأفكاري حولها، إلا في بوادي".

وفي "نهاية النهاية" يجد الراوي "مرحلي" نفسه مقيداً، وتحوم حوله أصوات زغاريد، وتصفيق، وكأنه احتفال ما في الخارج، بينما تتغلغل رائحة نار منبعثة من مكان يبدو قريباً لتستوطن أنفيه، قبل أن تقتحم مجموعة معزله الإجباري، وأصوات تأتي من الخارج "ابن ابليس .. ابن ابليس ... لنحرق الشيطان حالاً"، وهنا يقرأ رسالة "ديباج" التي كان يتوجب عليه ألا يقترب منها، ولو لبرهة تأخذ حيزاً ولو ضئيلاً من تفكيره .. "كانت تأتيك رسائل للمهمّات، وتنفذها بلا إبطاء، وتسأل أحياناً عن سبب تلك الرسائل، وسبب موت الذين ترد أسماؤهم داخلها: وأقول لك دائماً، بكل بساطة: لا أعرف .. لا أعرف يا أخ .. أقسم لك لا أعرف. في الحقيقة لا يوجد سبب .. نعم، لا يوجد سبب على الإطلاق، ولا يوجد أصلاً من يدفع لي أو لك لتسرق الروح من أحد، هو خطي الذي أجيد التحوير فيه، كما أريد، من دون أي مشكلة، هي دنانيري التي أملكها، وأعيرك إياها فقط، وأعرف أنني سأستردها ذات يوم، وقد استرددتها فعلاً، استرددتها أضعافاً: وسأخبرك كيف حدث ذلك. ستسأل .. ولماذا أختار أشخاصاً مسالمين، أو حتى أشراراً، وأدفع لقتلهم؟ لا سبب واضحاً حتى لديّ أنا، إلا إن اعتبر قتل أبي لأمي بسكين حاد، أمام عينيّ، وأنا طفل صغير، سبباً".

"مرحلي" الذي هرب من منزله يافعاً، بسبب تلك الدجاجة غريبة الأطوار التي كانت "تبكي وتضحك وتغازل الديوك بلا حياء"، ولملل كان يتملكه في منزل عائلته فـ"الصباحات في البيت مثل المساءات فيه بلا بهجة ولا أحزان"، ولمطاردة تلك "الشياطين من أنواع مختلف" له، وجرجرته "إلى الرحيل"، فكان الرحيل إلى مدينة "كونادي" القريبة داخل "قير" نفسها، والتي يلتقي فيها بـ"ديباج" الفارسي فجأة بلا أي مقدمات، "بلا ابتسامات متبادلة، بلا معركة من أجل شيء ... بلا لقاءات متكررة وتبادل للأفكار، بلا أي استحسان لصوته الخشن، ووجهه السمين الذي يدس تعابيره جيداً"، وذلك في "سوق محيي الدين" الأكبر في المدينة، حيث كان "ديباج" صنائع التمائم يمارس متعته فيما يكتب ويرسم.

التفت "ديباج" إلى تلك الملامح الإجرامية لـ"مرحلي" كسرقته حملاً رضيعا وخنقه دون سبب، وقُرطَ شقيقته الذهبي وإهدائه إلى متشرد، وحذاءً جديداً من جلد الغزال لأبيه وإلقائه في البحر، قبل أن يُخضعه لاختبارات عدة لضمان انقياده الأعمى له، وهو ما كان، فبات الثاني خاتماً في إصبع الأول، بل أداته لإعمال القتل في من يقرر إنهاء حيواتهم .. الفارق بينهما قرابة الخمس عشرة عاماً لصالح "صانع التمائم"، فيما تستمر علاقتهما لأكثر من ذلك بخمس سنوات أو يزيد قليلاً.

وكان "ديباج" يعمل في كتابة التمائم لأغراض متعددة، "بعدما طرد من وظيفته السابقة كواحد من حاشية الملك"، فذاع صيته بين مختلف شرائح المجتمع القيريّ، وهي تمائم لا معنى لها، ويبتغي منها إيهام فرائسه ممن يعتقدون بجدواها في علاج العقم، وإنهاء الفقر، والتقرب من حبيب، وإيذاء عدو ما، وغير ذلك.

رسالة واحدة كانت كافية لإنهاء حياة شخص ما، كل ما تحتويه اسم الضحية، وكان أول الضحايا "صدقات" الفارسي، زوج شقيقة "ديباج" وابن عمه، و"نفق" خنقاً، وبذات الطريقة قتل عروساً في شهرها الأول للزواج، ومن ثم "الياطور حسن" أحد الأشخاص المشكوك في ولائهم للدولة، وتفاجأ القاتل وآمره كيف ينظم أهله مراسم دفنه بعد اثني عشر عاماً على حادثة القتل المعلنة في الأخبار الموجزة، التي كان يبثها إخباريون ثلاثة أحدهم "المريد مرجان"، الذي يكشف لـ"سارق الأرواح"، ذات مرة، بأنه من يغتصب الأطفال، ويصارحه باكتشاف سره كقاتل، في حين كان خبر مقتل "المريد" صادماً لـ"مرحلي"، لكون هذه الحادثة كانت إلى حد ما جريمة القتل الأولى التي تفلت من بين يديه.

أما الإخباري الثاني فهو "لؤي البرهان"، الذي يتضح فيما بعد أنه قاتل "مرجان" ومغتصب الأطفال الحقيقي، فيما كان ثالثهم "عبد الحكيم الزرافة" بعيداً عن دائرة الأحداث المريبة، ومستمراً في دوره بإذاعة الأخبار.

وكان تسلل الشخصيات التي تقتحم تفاصيل الحكاية، وتخرج منها سريعاً، وما يرافقها من أحداث على مدى الرواية، كفيلا بإلقاء القبض على القارئ حتى إتمام السطر الأخير، بما يحمله وما سبقه من مفاجآت لم تكن بالحسبان، وهو ما يعكس حرفية عالية في التعاطي مع هذا النمط السردي، في فصول عجت بلغة راقية وبعض المصطلحات غير المتداولة، والتي ربما تأتي لتوائم المرحلة الزمنية وطبيعة الجغرافيا المتخيلة في الرواية، وهي لغة مغناطيسية لعشاق الانتصار للرسم بالكلمات، والذي يرون فيه تميزاً في الرواية العربية عن غيرها.

وثمة إسقاطات كثيرة يمكن تأويلها في تفاصيل الحكاية أو "الجزء المؤلم" منها على واقع تعيشه كثير من الدول العربية، أو تلك التي لا تخرج عن كونها عالماً ثالثاً أو رابعاً أو حتى عاشراً، حيث الفقر، والسحر، والخرافات، والفساد، والعصابات المنظمة، والنساء المهمشات اللواتي لا يخرجن في كثير من حالاتهن عن كونهن وسائل للمتعة، وحيث المؤامرات أو اللامؤامرات الغامضة، فلا يقينيات في الرواية بتراوحها ما بين خيال وواقع، كما لا يقينيات في حيوات من يعيشون في عمق بؤس هذه البسيطة، فما يحدث في عالمنا اليوم ليس أقل غرائبية مما جاء في الرواية.

ولعل في اسم "المرحلي" دلالة يمكن تأويلها على أنها توصيف لكثير من الزعماء الكبار والصغار، على اختلاف مفهوم الزعامة، ممن يتلقون الأوامر للقيام بالأدوار المرسومة لهم في "مرحلة" ما، تنتهي باستبدالهم بعد طي كل صفحاتهم، والسطو عليها كما كان "مرحلي" يسطو على الأرواح دون مبررات إلا شهوة القتل لجديه ولآمره "ديباج" .. فهو ليس أكثر من "مرحلي" فعلاً، يستبدل بعد الرسالة الأخيرة في "طير" بتابع جديد يأخذ مكانه، ويبدو أكثر مهارة، هو "خفير" الغجري.

و"الخفير" لغة هو "الحارس"، وفي تحوير تحولت في لهجات بعض الشعوب إلى "غفير"، وهو ذلك الشخص الوضيع المكلف حراسة علية القوم على اختلاف درجاتهم، كـ"العمدة"، أو "البيه"، أو "الباشا"، أو غيرهم، وهنا إحالة إلى جزء قد يبدو مؤلماً في تتمة حكاية لم يسردها أمير تاج السر، وربما يقع على عاتق قارئ الرواية بناية تفاصيلها في ذهنه، بالاتكاء إلى حكاية "مرحلي" المؤلمة، مع تبدل الضحايا، وآليات وقوعهم في شرك "ديباج" الذي يتقمص دور "الشيطان الأكبر"، الذي يظهر في زمننا هذا حيث القتل، ففي الـ"هنا"، والأكثر من "هناك"، يتناسخ "ديباج" وأتباعه من شخصيات يقبض عليها المرض من دواخلها، وتشرع في تعبئة زجاجات أيامنا بمزيد من دماء الأبرياء.

وكان أمير تاج السر، في حفل إطلاق الرواية ببيروت، عبّر عن رغبة ملحة كانت تسكنه لكتابة رواية كهذه "بعوالمها الغرائبية العنيفة، وشخوصها السايكوباتيين"، لاسيّما أنّها "تدور في عالم له أطره وقوانينه الخاصة، بعيداً عن أي إحالات لأي كوابيس حديثة أو قديمة".  

 

amm
Developed by: MONGID | Software House الحقوق محفوظة مفوضية الإعلام والثقافة © 2024