يوم الدين".. إبداع سينمائي مصري يعرّي الحواس ويفتح مساحات لانهائية للتأمل
نشر بتاريخ: 2018-10-23 الساعة: 11:06رام الله- الايام- أن تكون التجربة السينمائية الأولى لكل من المخرج وجهة الإنتاج والممثلين الأساسيين بهذا العمق على المستوى الفني، وعلى مستوى المضمون، والأداء، والرسائل، فإن الحديث بلا شك عن فيلم "بيت الدين" للمخرج أبو بكر شوقي، عن نص له أيضاً، والذي فاز بالعديد من الجوائز العالمية، وترشح ليمثل جمهورية مصر العربية في المنافسة على مسابقة أوسكار أفضل فيلم أجنبي.
الفيلم الذي ينتمى إلى ما يسمى بـ"أفلام الطريق" أو "رحلة على الطريق" أو (Road movie)، يرصد حكاية رجل يدعى "بشاي" في منتصف عمره (راضي جمال)، ترعرع داخل مستعمرة للمصابين بالجُذام.. وبعد وفاة زوجته المصابة هي اﻷخرى بالجذام، يغادر "المستعمرة"، وينطلق برفقة صديقه الطفل النوبي "أوباما" (أحمد عبد الحفيظ)، وحماره "حربي"، خلال رحلة عبر أنحاء مصر، حيث المفارقات المضحكة المبكية، والتي تنتصر للإنسانية بعيداً عن الشكل واللون والدين والجنس، وذلك خلال محاولته معاودة الاتصال بعائلته من جديد بهدف الوصول إلى قريته في محافظة قنا.. يقرر ذلك على الرغم من التخلي عنه في المستعمرة من قبل والده.
على الطريق إلى القرية الوطن، أو الوطن الوهم لاحقاً، يواجه الغريبان في كل موقع يزورانه، قدراً لربما غير مفاجئ من العداء مصدره أولئك الذين يخافون جهاراً من اعتقاد خاطئ بأن "الجذام" مرض معد، لكنهما يجدان رفقة من ثلاثة من المنبوذين، بينهم حامد، سائق الشاحنة السابق الذي بات بلا أرجل ورفيقيه الذين يعيشون كما "يشاي" و"أوباما" الطفل المسلم، على هامش الحياة، أو اللاحياة.
وكما هي الحال في معظم أفلام الطريق، هناك لحظات يتم فيها التوجه نحو الطريق السهل، ما يؤدي إلى مسارات مفعمة بالحيوية: تريح البعض، وتعرّف بشكل مألوف على الآخرين، وهذا يشمل ذكريات الماضي غير الضرورية في تمويه متواليات الحلم التي تميز بوضوح ما هو واضح بالفعل، ولكن فقط عندما تشعر بأن النهاية تقترب من مرحلة الإشباع، فإنك تفاجأ بخطاب نصي ومشهدي على مستوى عال من الإبهار الجمالي، بحيث ينقلك فجأة مما كان يمكن أن يكون مجرد مشاعر سهلة في مشهد متحرك، ليلعب في أوتار الروح، في مشاهد تبعث على الضحك من فرط الوجع، كمشهد الهرب المشترك للإرهابي ومريض الجذام من الزنزانة، ومشهد الصلاة الاضطرارية، وإخفاء كل من "يشاي" و"أوباما" هويتهما الدينية في مواقف خشية من العواقب.
وكان لافتاً الاتكاء على بطل يجسد دوره بشكل أو بآخر، فهو ذلك المصاب السابق بالجذام، ويتسلح بكرامة مخدوشة أو حتى مجروحة، بل إن الكاميرا تركز على فتحتي العينين الضحلتين ومتشابكتي التجاعيد، في انسجام معبر يتضح أكثر مع استمرار الفيلم، حيث الخطوط الطولية والعرضية تغمر وجه "بشاي"، وهو القرار الجريء للمخرج في جعل المشاهد لا يتعاطى ببساطة تصل درجة الاستهتار مع حالات ما بعد التشوه، وإن كان وضع "بشاي" في إطار مجموعة لا نهائية من المشوهين والمهمشين في آن، والذي ينتظر بعضهم "يوم الدين" كموعد لعدالة مفقودة في أيامهم المستمرة على هذه الأرض.
صور الفيلم، الذي عرض في فعاليات "أيام فلسطين السينمائية"، جذابة دون الانخراط في فقر مشاهد الإغراء والعنف التي كانت مثار جاذبية الأفلام المصرية في سنوات ما بعد الثورة، أو غالبيتها، فبينما يضمن مخرج الفيلم إحساساً راسخاً بالمكان، وهو ضروري لأي "فيلم طريق"، فإنه يبدع في تركيزه على الشخصيات نفسها، خاصة لأن كل من "بشاي" و"أوباما"، شخصية مرسومة بشكل رائع بل مبهر.
الكوميديا التي كانت تختلط بالمآسي، كانت من النوع الصارم، كحامض يصهر أطراف أي شعور لطيف، لكن الألم موجود على الدوام، فهناك عودة سريعة إلى لحظات الصبر المليء بالشوك، سواء عندما ترك "بشاي" عند بوابات المستعمرة وهو يرتدي قناعاً من قماش الخيش لإخفاء وجهه، أو في وقت لاحق بالقطار، حيث ينمو بشاي المليء بالحيوية في كل شخص يتعاطى معه باشمئزاز، صارخاً "أنا إنسان" .. إنه مشهد مؤثر من بين مشاهد أكثر إيلاماً في فيلم يستحق أن يوصف بـ"الإبداع السينمائي".
"يوم الدين" .. فيلم يتغلغل عبر مسامات الجلد ليكشف عن مناطق في دواخلنا، لربما كنا نجهلها، ويجعلنا نبكي، ونرجف، ونضحك.. فيلم إنساني يعري العالم، ويعري ما تبقى من أسلاك غير عارية في وعينا أو لا وعينا، ويمنح ذواتنا فرصة غير مسبوقة للتأمل.
amm