الرئيسة/  ثقافة

"الشحاذة" لهيفاء بيطار .. حين يغيب الحدث وتتصدر المشاعر مشهد التعبير عن المأساة السورية

نشر بتاريخ: 2018-09-25 الساعة: 08:07

رام الله- الايام- "يراودها الانتحار" .. تستهل الرواية السورية هيفاء بيطار روايتها "الشحاذة" الصادر عن دار الأمانة في الرباط بالاشتراك مع منشورات ضفاف في بيروت ومنشورات الاختلاف في الجزائر، بهاتين الكلمتين اللتين تستمران معها حتى السطر الأخير، فرغبة الانتحار تنتقل من صفحة إلى أخرى ما بين دفتي الرواية .. تلك الرغبة التي تخفيها عن أصدقائها وأهلها، وتحاول دائماً أمامهم الظهور بمظهر المتماسكة القوية على مستوى القشرة الخارجية لمكنونها الجسدي، بينما هي من الداخل تعيش حالة انهيار كبير ويأس ودمار نفسي، بدأ يرافقها منذ اندلاع الحرب السورية، وتفاقم بعد سفر وحيدتها للدراسة في الخارج.

القارئ الباحث عن حدث محوري هنا لن يجده في هذه الرواية، فهي رواية مشاعر وأحاسيس بامتياز، حيث أن الشخصية الأساسية أو المحورية والوحيدة في الرواية تعيش وحدة حقيقية رغم وجودها في باريس بالقرب من شقيقها وشقيقتها ووالديها المسنيّن، لكنه الجرح السوري النازف، الذي يدخلها في حالات من الهذيان والذعر والقلق، ما دفعها الى الإدمان على المهدئات والحبوب المنوّمة والكحوليات، في محاولة منها للهروب من واقع أليم عبر بوابة النوم، ففي النوم استراحة جسمانية ونفسية مؤقتة لها، ولذلك كانت تنتظر الليل بفارغ صبرها حتى ترتاح ويرتاح عقلها الذي لم تتمكن من ردعه عن الاستمرار بالتفكير في سورية وأحيائها وشبانها وأطفالها، والجثث والأشلاء الكثيرة هناك.

تتنقل الكاتبة في فصول الرواية ما بين فرنسا وسورية، وخاصة في تلك الفترة التي تلت سفر ابنتها وبقائها وحدها، إلى أن رحلت هي الأخرى لتنضم إلى عائلتها في باريس متنقلة بين بيت شقيقها وبيت شقيقتها، وإن تركت روحها وراءها في الشام، تلك الروح التي أبت الرحيل.
فـ"الشحاذة" هي رواية حول سورية من خلال الحالة النفسية لصحافية وكاتبة حاولت أن تعالج جروح سورية العالقة داخلها عبر كتابة نص روائي، وبقيت تحاول في الخروج بنص ظل دون ملامح.

قررت ان تزور طبيباً نفسياً كانت تربطها فيه صداقة قديمة .. ترددت، ثم ذهبت إليه لتجد العيادة تعج بالمرضى، حتى إنها قالت في سرها "يبدو أن كل السوريين يراجعون الاطباء النفسيين بحثاً عن علاج"، لتجد وبعد حديث مطول مع الطبيب أنه هو أيضاً مكتئب لما يجري في بلدهما من دمار وقتل، لكنه أشار لها بأنها صحافية وكاتبة قوية، ومقالاتها تحوي طاقة ايجابية كبيرة، وتبث في الجميع المعنويات العالية، وأن عليها الاستمرار بذات النهج قبل أن يصف لها بعض الحبوب المهدئة والمنومة.

وفي محاولاتها المستمرة لعدم الاستسلام لفكرة الانتحار والنجاة منها تتحول من الطبيب إلى الكاهن، مع أنها ليست متدينة، وكانت آخر مرة لها تزور فيها الكنيسة حين كانت في العاشرة من عمرها، وليس لداعي الصلاة .. الكاهن هو الوحيد الذي تسر له بتفكيرها الجدي بالانتحار، لكن ما يحدث هنا أنه يسعى لاستغلال حالتها النفسية لإقامة علاقة معها تدخل في إطار التحرش الجنسي، وهو ما ترفضه بشكل قطعي، تاركة إياه إلى غير رجعة.

ذات مرة طلبت منها والدتها في اتصال هاتفي أن تتوقف عن الكتابة ضد النظام خشية أن تتعرض لسوء، لكنها رفضت بعد أن استقبلت المكالمة بحالة من اللامبالاة، إلى أن تم إيقاف مقالاتها وعدم النشر لها بقرار من إدارة الجريدة، ودون إبداء الأسباب.

كانت هذه الشخصية المحورية في رواية "الشحاذة" تعيش مشاعر النقمة تجاه سيرورة الحياة على طبيعتها في باريس، هذه النقمة التي تحولت إلى حالة مرضية وصلت إلى درجة الحقد على والديها المسنيّن كون أن شقيقيها وفرا لهما من يقوم برعايتهما هما التسعينيَّين بينما أطفال سورية وشبابها يموتون كل يوم، ولا أحد يحرك ساكناً في هذا العالم .. عبرت بوضوح عن كرهها للشيخوخة وللمسنين على اعتبار أنهم يحظون بما لا يحظى بجزء يسير منه أطفال سورية.

والرواية، التي كما أشرت بلا حدث بارز، أو حبكة واضحة المعالم، تظل تراوح في فصولها المتعددة في ذات الدائرة، حتى أنها تقع في التكرار أحياناً، في محاولة من بيطار لتسليط الضوء على الحالة السورية، عبر ما يمكن وصفه بسيرة روائية، إذا ما تعرفنا أكثر على ما حدث مع بيطار نفسها، هي التي قالت في تصريحات صحافية لها: المبدع يكتب سيرته الذاتية عادة في أواخر عمره، أما أنا فحصل معي العكس؛ إذ كانت أول رواية أكتبها "يوميات مطلقة" سيرة ذاتية مُختصرة عن معاناتي مع المحاكم الروحية المسيحية التي حكمت عليّ بالهجر سبع سنوات قبل الحصول على الطلاق".. أنا معجبة بأدب السيرة الذاتية، لأنه أكثر ما يُعبر عن حقيقة أفكار ومشاعر الكاتب والأهم رؤيته للعالم وللوطن وللألم، كما أنه مُخلّص من ألم الغربة .. لو لم أكن أقضي جزءاً طويلاً من وقتي في باريس بالكتابة لكنت غرقت في اكتئاب حاد.

وبالإشارة إلى روايتها الأخيرة "الشحاذة"، قالت بيطار "دارت السنوات واشتعلت الثورة السورية، ووجدت نفسي في وضع مفروض علي، وهو البقاء لأشهر في باريس، التي أسميها عاصمة الوحدة في العالم، لأن كل أسرتي صارت في باريس وابنتي الوحيدة في بريطانيا، ولأن السوري مُحاصر كأنه يعيش في قفص، كان عليّ أن أتحمل بصبر فائق وأكثر من قدرتي البقاء لأشهر في باريس كي أحصل على بطاقة الإقامة، وكي أتمكن من السفر .. كنت أقضي معظم وقتي أكتب لساعات في مقهى "كافيه راي" رواية لم أكن أتبين ملامحها بعد، وكانت بطلة الرواية تشبهني إلى حد بعيد، إذ أصب أفكاري ومشاعري فيها، وأجعلها تتكلم بلساني .. جوهر روايتي "الشحاذة" التي سردت سيرتي هو الألم السوري والمأساة السورية .. شعرت بنوع من الرضى حين أنهيت الرواية .. "هي بكل شفافية وصدق نوع من السيرة الذاتية المموهة، وأشعر بنوع من السعادة المُبطنة بحزن شفيف بأن روايتيّ الأولى والأخيرة تعبران عني، عن أفكاري ومشاعري، وأمازح نفسي إذ أقول رواية قبل الثورة السورية ورواية بعدها".

واستطاعت الشخصية المحورية في الرواية، وعبر فصولها التي حملت عناوين من بينها "التوحد"، و"كافيه راي"، و"انهيار"، و"أحبائي السوريين"، و"هروب"، و"غواية الموت"، وغيرها، التطرق لمواضيع عديدة على ارتباط بالمأساة السورية من خلال حكايات صديقاتها التي تنوعت ما بين تلك التي تبيع كل ما تملك لتهريب ابنها من موت محقق في الحرب إلى موت محتمل في البحر، وأخرى يتعسكر ابنها ويحمل السلاح، وفي كلتا الحالتين تعيش الأم السورية حالة من الإحباط والقلق والتوتر الدائم كما هو حال السوريات في المهجر. 

amm
Developed by: MONGID | Software House الحقوق محفوظة مفوضية الإعلام والثقافة © 2024