"نارنجة" لجوخة الحارثي .. حكايات عُمانية عبر بوابة "زهور" و"الجدة والعذراء" وأخريات
نشر بتاريخ: 2018-07-10 الساعة: 08:15رام الله- الايام- الشخصيات الأساسية في رواية "نارنجة" للروائية العُمانية جوخة الحارثي، الصادرة عن دار الآداب في بيروت، قبل عامين، بالدرجة الأولى نسوية، فهي تحكي قصة زهور الطالبة الجامعية التي تنحدر من عائلة ميسورة، والمتأثرة بحكايات الطفولة التي تربطها مع جدتها "بنت عامر".
زهور تدرس في لندن، وتعيش يومياتها رفقة صديقتها الباكستانية سرور وشقيقة الأخيرة كحل، وكلتاهما ابنتا رجل ثري في بلاده .. تحدثهم زهور طوال الوقت عن "بنت عامر" الملقبة بـ"الجدة العذراء"!
"تستعيد زهور في غربتها في بلاد الثلج أحلام جدتها التي لم تتحقق قط، وهناك يجمعها القدر بسرور وأختها كحل وعمران زوج كحل الهارب من حقله في باكستان. يتشكل بين زهور وكحل وعمران مثلث غامض تغذيه ذكرى الجدة التي عاشت عمرها الطويل عذراء وبلا حقل. إنه مثلث يحوم حول السؤال الأزلي: هل من علاج للحزن؟".
الكاتبة، وبلغة سلسة لم تفقد عمقها، ترحل بنا ذهاباً وإياباً طوال فصول الرواية، وبشكل يتأرجح بين الأزمان، إلى حيث حكايات "الجدة العذراء"، وحكايات زهور ورفيقاتها في لندن، فمن خلال حكاية "بنت عامر"، والتي توفيت والدتها وهي في العاشرة، وتزوج والدها من أخرى، طردتها وشقيقها الذي يكبرها بثلاث سنوات زوجة الأب .. شقيقها توفي بعد عامين، ليأتي سلمان (أحد أقاربها) وزوجته ثريا كمنقذين لها من حياة الشارع إلى منزلهما، هي التي كانت تعمل في جمع الحطب، وتحويله إلى "صخام" (فحم)، وهو ما كان بالكاد يجعلها قادرة على البقاء على قيد الحياة.
الجدة بعد طلاقها مرتين، وموت شقيقها، لم يبق لها أحد، فأخذها قريبها سلمان وزوجته لتعيش عندهما ... في سن الأربعين أنجبت الزوجة "ثريا" مولودها الوحيد، لكنها، ولقبح منظر الرضيع، تركته ولم ترضعه .. الحليب تدفق بشكل مفاجئ داخل ثديي "بنت عامر" العذراء فأرضعت "الطفل المنبوذ من أمه".
وبقيت تلك المسافة ما بين الأم البيولوجية وابنها "القبيح"، أما "بنت عامر"، فغيرت له اسمه من صالح إلى منصور، هي التي كانت ترعى كل شؤونه، حتى بعد وفاة والده في أحد أسفاره، ما دفع الأم "ثريا" إلى الانعزال للعبادة وحفظ القرآن، ومن ثم العمل على "استشفاء" الناس بالقرآن وغير ذلك دون مقابل، من باب "التقرب إلى الله".
"ولد صالح، الذي أصبح منصور، والذي سيصبح أبي، بعيد الحرب العالمية الثانية. كانت موجة جديدة من الغلاء قد اجتاحت البلاد، وتجددت أسراب المهاجرين إلى أصقاع الأرض، بحثاً عن الرزق الشحيح لم يبق لأبيه سلمان من أملاكه غير الدكان والبستان. لم يكف الطفل المسخوط من أمه عن البكاء والصراخ حتى ضمته بنت عامر إلى جناحها، ومنحته اسمه الجديد. ظلت تخيط كل دشاديشه بيدها حتى كبر وشب وتزوج، وظلت تنتقص من نصيبها من أرز الغداء وخبز العشاء ليزيد نصيبه، حتى بعد أن عاد اليسار إلى العائلة".
من خلال حكاية زهور عن الجدة غير البيولوجية لها، والتي كانت تحلم بحقل خاص فيها تزرعه وتأكل من ثماره، وهو ما عوضته بزراعة "النارنجة" وغيرها من الأشجار في محيط منزل سلمان، رصدت شيئاً من أحوال سلطنة عمان اجتماعياً واقتصادياً، رابطة ما بين حكايات الجدة وتحولات المجتمع العماني على مختلف الأصعدة، وفي أزمنة متعددة.
وفي هذه الأثناء لم تغفل الرواية رصد حيوات ويوميات زهور وصديقاتها في "بلاد الثلج"، حيث سارت بخطين متوازيين في الرواية ما بين ماضٍ جسدته "بنت عامر"، وحاضر لعبت البطولة فيه "زهور"، وما بين حاضر داخل الحاضر نفسه، وماضٍ في إطار الماضي، لتسلط الضوء على مفارقة جدتها العذراء التي كان حلمها الأكبر حقلاً للزراعة، فيما زوج شقيقة صديقتها السري (عمران)، وكلاهما يدرسان الطب هناك، فرّ من حقل والده الذي كان يزرعه، ولو بقوة "العصا".
في الرواية، ومن أجل التطرق لزوايا مجتمعية بعينها، كانت تخرج شخصيات من قمقمها لفترة ثم تعود إلى مكانها، كـ"سمية" شقيقة زهور، التي ظهرت في منتصف الرواية، مجسدة دور المرأة المقموعة من قبل زوجها، والتي تعاني من قمع جسدي ولفظي واضطهاد متواصل منذ ما عرف بـ"شهر العسل" .. "قبل أن يعودا من تايلاند، كان قد كسر مزهرية وطبقين وكوباً والإصبع الأصغر في يدها اليمنى.. ظل يقترب منها بهدوء وظلت تتراجع حتى اصطك ظهرها بلحاء الشجرة، وجرحت بقايا الكوب الزجاجي يديها. حين يكسر الأشياء وتنفر العروق الزرقاء في وجهه كانت تعي أن كلمة واحدة منها ستجعلها الموضوع القادم للكسر".
وتأتي حكاية "سمية" كاستكمال لإضاءات الحارثي بخصوص اضطهاد المرأة المتواصل منذ عقود، والذي أشرت له سابقاً في حكاية الجدة العذراء وما عانته من اضطهاد داخل الأسرة وخارجها.
ولم تكتف الحارثي بتسليط الضوء على اضطهاد المرأة في سلطنة عمان، بل توسعت للتعاطي معها كظاهرة عالمية، من خلال حكاية "كحل" التي تنحدر من أسرة أرستقراطية في باكستان، لكنها دفعت ثمن تلك القوانين الصارمة لهذه الأسرة لفترة ما كانت مجبرة فيها على التقيد التام بتعليمات الأبوين بحذافيرها، هي التي كانت أيضاً أقل شأنا من شقيقتها بسبب فارق الحسن بينهما، ما دفعها إلى أحضان "عمران"، زميل الدراسة، والفلاح الباكستاني الفقير ذي الملامح الخشنة، في إطار زواج سرّي بدأ كزواج متعة لستة أشهر، لكن العلاقة العاطفية التي جمعتهما حولته إلى زواج سرّي بعيداً عن تلك الفترة الزمنية المتفق عليها لإنهاء ذلك الزواج الجسدي بالأساس.
والمفارقة أنه حين توفيت الجدة العذراء لم تصمد كثيراً شجرة "النارنجة" ففارقت الحياة هي الأخرى، في حين بقيت نهايات حكايات كافة شخصيات الرواية، بمن فيهن زهور، مفتوحة على التأويل، وكأنها تنتظر تغييراً مجتمعياً ما، أو على صعيد الشخوص أنفسهم، بأن يتخذوا قرارات مصيرية في حيواتهم بعيداً عن إملاءات الأهل والعشيرة والمجتمع وظروف الحياة العصيبة.
وتحت عنوان "الفارس"، وفي الصفحتين الأخيرتين في الرواية، عادت الحارثي إلى حكاية الجدة العذراء وهي طفلة .. "لم تمت الأم بعد، لم يتزوج الأب بأخرى بعد. لم تتكاثر الأفواه الجائعة حوله، لم يخسر الأب كل أحصنته بعد، ولم يصل ثمن شوال الأرز إلى مائة قرش. لم تفقد عينها بعد، ولم تسمع همس أبيها: لن أزوجها قط فيعيّرها أهل الزوج بالعوراء".
والحارثي، وفي حالة مغايرة عن نهايات الكثير من الروايات العربية، تستعيد شيئاً من حكايات الجدة في الحارات القديمة، وكأنها هنا لا تريد أن تفقدها، أو تواصل التعبير عن حسرتها بفقدانها، ما قد يدفع للتساؤل: هل كانت "الجدة العذراء"، بشكل أو بآخر، هي تعبير روائي عن حكايات جدة الروائية جوخة الحارثي نفسها؟ وهل الروائية العُمانية لا تزال مسكونة بحكايات الجدة التي لا نعلم إن كانت زرعت "النارنجة" بدورها أم لا؟!