الرئيسة/  ثقافة

تيسير خلف في "عصافير داروين" .. نبش روائي تاريخي في مآسي العرب والمسلمين المتجددة!

نشر بتاريخ: 2018-06-12 الساعة: 10:57

رام الله- الايام- "كانت وطأة البرد تزداد ليلة بعد أخرى"، وعليه لم يعد حسن الرمّاح "يحصي الأيام والأسابيع" في عراء شيكاغو في محيط العام 1893، بعد أن فقد الفرس نجمة التي بيعت عنوة في مزاد علني بثمن بخس لرجل من نيويورك، في وقت ذهبت فيه معظم خيول "المرمح الحميدي" التي بيعت في ذات المزاد، بما فيها "عبيران" إلى رجل أعمال من بوسطن، بات خلال سنوات قليلة أكبر مالك للخيول العربية في الولايات المتحدة بأكملها.
هو رمّاح الذي فقد جواده "الدبران" في حريق متعمد قبيل العرض المنتظر، أتى عليه وعلى عدد من الخيول والجمال بـ"فعل فاعل"، وهو أيضاً الذي تعرض لسرقة من "مجهولين" بلكنة أجنبية، طالت "سلاسل أنساب الخيول العربية الأصيلة"، التي بقيت محل مساومة، وساهمت في تبخيس أثمان هذه الجياد في المزاد العلني الذي انتهى بها إليه الأمر، بعد أن كانت هي الرهان الرابح في المنتج التركي العربي تحت المظلة العثمانية بالمعرض، بل إن داعمي هذه المشاركة من الرأس مال العثماني بتفرعاته راهنوا على تحقيق الأرباح من وراء هذه المشاركة.
"بدأت الغيوم الرمادية تتكاثف بسرعة وتطلق بروقها ورعودها المرعبة"، فامسك الرجل الضخم بالرمّاح، وهو صديقه في حياة التشرد، "من يده وسحبه إلى باب البناء القريب المغلق المظلل بحافة من القرميد" ... "تجمع الرجال الملتحون تحت المظلة القرميدية، وهم يراقبون بصمت تكدس الثلوج أمامهم، ومع اشتداد العاصفة التحموا ببعضهم البعض، وغدوا كأنهم كتلة واحدة من القماش الداكن المجلل بالبياض"، بينما كان البروفيسور بوتنام، وغير بعيد عنهم "يراقب سقوط الثلج من نافذة مكتبه في مبنى إدارة المعرض"، وفي أول الليل "شغل نفسه بمراقبة العصفور الوحيد من عصافير داروين الذي بقي على قيد الحياة" ... وبدأ العمل على إنهاء كتابه "الأعراض البشرية في ميدواي بليزانس"، قبل أن ينشغل في "وظيفته الجديدة" بمتحف التاريخ الطبيعي في نيويوك.

بداية الحكاية
البروفيسور بونتام المتخصص بالانثروبولوجيا في جامعة هارفرد "يتأمل بدهشة ممزوجة بالإعجاب، المناقير المتباينة للعصافير الخمسة التي أرسلها صديقه من أرخبيل غالاباغوس المقابل لسواحل الإكوادور" ... وقبل أن يخط رسالة شكر وامتنان لصديقه السائر على خطى داروين، الذي ألهمته هذه المناقير الغريبة نظرية النشوء والارتقاء ذات يوم، "وصلت دعوة من الرئيس الأميركي بنيامين هاريسون إلى السلطان العثماني عبد الحميد خان، للمشاركة في المعرض العالمي"، الذي كان مقرراً أن يفتتح في شيكاغو في الأول من أيار 1893 .. "شعر السلطان بالكآبة، وهو يستمع من كاتبه ثريا باشا إلى ترجمة الرسالة، وأطرق ملياً قبل أن يقول بصوت جهور رنّان: اقبلوا الدعوة، وانتظروا أوامري لتشكيل لجان التنفيذ!".
وبينما كان بونتام مشغولاً في محاولة تعميم نظريات داروين اجتماعياً، أي تعميمها على البشر، وتجربتها في قسم للترفيه على هامش معرض شيكاغو العالمي 1893، كانت الحيرة تملكت السلطان وأركان حكمه لسنة بأكملها، هو الذي اعترف بحسرة لا تخلو من غضب: الموضوع بكل بساطة أنه لا شيء لدينا لنشارك به، امبراطورية تنتشر على ثلاث قارات، ولا شيء لديها لتشارك به في سباق الأمم.
فكرة شارع "الترفيه العلمي"، تتكئ على نظرية داروين، وتراعي وفق نظر بونتام "سلم التطور الإنساني" .. "لدينا شارع بطول ميل واحد في منطقة ميدواي بليزانس، يبدأ من أكواخ القش الإفريقية، حيث نرى الوحشية التي تجعلنا نصدق القصص التي قرأناها عن جيو الأمازونات وأكلة لحوم البشر، ثم تنتقل إلى قرية البولونيزيين التي تظهر عظمة تطور أبدانهم وطريقة إشعالهم النار بعودين خشبيين، وهي طريقة تعيدنا إلى العصور السحيقة، فمخيم الهنود الحمر وألوان أزيائهم الغريبة، فقرية جاوة الخشبية، ثم القرية اليابانية، فالتركية، فالمصرية، فالهندية، وبعد ذلك نصل إلى القرى الأوروبية كالقرية الإيرلندية، والألمانية، والبانوراما السويسرية، وفيينا القديمة، والتي تشكل في مجملها المعبر الطبيعي إلى المدينة البيضاء، مقر معرضنا" .. والمدينة البيضاء تمتد على مساحة ستين هكتاراً "تمثل خلاصة تطور البشرية، من حيث التناظر المعماري، وروعة التوازن بين الأبنية والقنوات المائية والبحيرات التي لم تجتمع في مكان واحد من قبل، بالإضافة إلى الأضواء الكهربائية التي لم تعهد الإنسانية انتشارها بهذه الكثافة".
ولم تخل رؤية القائمين على قسم الترفيه في المعرض العالمي بشيكاغو من رؤية عنصرية تتعلق بسلالات البشر، وهو ما عبر عنه بونتام، حين رفض تخصيص موقع للقرية الجزائرية التونسية في المنتصف، بقوله، على سبيل المثال، "كيف أضعها في المنتصف والجزائريون أدنى من ذلك في سلم التطور الإنساني (...) قررنا أن يكون شارع الترفيه أشبه بمحمية طبيعية تجسد مرحلة التطور البشري، ولذلك لم أجد مكاناً للقرية الجزائرية في هذا المجسم الحي".
وفي وقت كان يتحدث فيه بونتام ورفاقه عن قوة القمل كمؤشر لقوة مقياس التطور البشري، الذي يمكن أن تتحول الجبنة إلى مقياس أساسي له، وعن كيفية بناء محمية طبيعية للأنواع البشرية التي وصفوها بالسعيدة، كان السلطان وأعضاء القيادة يبحثون عما يشاركون فيه، خاصة مع تلقي الرسالة الثانية فالثالثة من القائمين على المعرض.
يجد السلطان ضالته في فكرة راجي صقيلي، أحد وجهاء عكا الفلسطينية، وتقوم على إنشاء ميدان للخيول العربية بمشاركة نخبة من الفرسان الحقيقيين، وممثلين وممثلات يجسدون أدواراً مختلفة تحاكي حرب داحس والغبراء، وهي الفكرة التي تروق للسلطان، ويحصل صاحبها على أوسمة عدة في المقابل .. يجمع راجي قرابة الخمسين حصاناً وفرساً أصيلاً، وفرساناً من البدو وغيرهم، وممثلين وممثلا ليسافر بهم إلى أميركا على متن سفينة "سنثيانا" المستأجرة، بينما يقع على عاتق الرأسماليين ورجال الأعمال تمويل المشروع الذي يتكلف 120 ألف دولار أميركي، بمقياس القرن التاسع عشر، وهو مبلغ كبير للغاية.

رحلة الصراعات
لا تخلو الرحلة الطويلة وذات التفاصيل الكثيرة والمتشابكة في سردها كما هي مستقاة من مخطوطات التاريخ الغائب عن العامة، وضمتها دفتي رواية "عصافير داروين" الصادرة هذا العام عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، من الحديث عن صراعات بين الممولين تجاوزت الجانب المالي باتجاه الصراعات العرقية ما بين موارنة وروم أرثوذوكس، وأخرى مناطقية ما بين بدو وفلاحين وأهل المدينة، وثالثة طبقية ما بين أغنياء وفقراء، حيث يلعب المال على الجانبين دوره في صنع القرار سواء على الجانب العثماني التركي أو الأميركي، في وقت تتحول رؤية عالم الانثروبولوجيا في تسويق النظرية الداروينية عبر بوابة الترفيه إلى وسيلة لجني الأموال الطائلة من قبل المرابين والتجار والمحامين الأميركيين.

حسن الرمّاح
تركز الرواية على شخصية حسن الرمّاح، مربي الخيول، الذي يقنعه راجي صقيلي باصطحاب جواده الدبران وفرسه نجمة للانضمام إلى الفريق، وهنا يبدأ الرمّاح رحلته في البحث عن سلالات الخيول وأنسابها في عمق البوادي .. كما أشرت، يحترق جواده الدبران في حادث مفتعل، وتسرق سلاسل أنساب الخيول التي كان يحملها، وهي التي تمنح الخيول قيمتها في المزاد العلني الذي بيعت فيه، لسداد الديون المتراكمة على الفريق التركي (المرمح الحميدي)، حيث أدت حالة التطاحن ما بين ممولي المشروع إلى حرب معلنة وغير معلنة بأساليب قذرة استعان فيها الأطراف بشركات المحاماة الأميركية، ووقعوا في أفخاخ المرابين والمقامرين الذي قادوا معاركهم الداخلية بالنيابة عنهم، فانتهى بهم المطاف دون أموال، ودون جياد، أو حتى أزياء .. كان كل طموحهم، بعد سلسلة الحروب داخل الفريق الواحد، العودة إلى دياريهم، بعد أن تبخرت أحلام الإثراء في ردهات المحاكم الأميركية وأقسام شرطتها، وغير ذلك.
يقول راجي صقيلي للمحامي الأميركي، بحسرة: حسنا أنك لم تعرضنا للبيع في المزاد العلني، فيرد المحامي: لولا إلغاء قانون العبودية لحصل ذلك!
وبعد ترحيل فريق "المرمح الحميدي" الذين يزيد عددهم على 130 شخصاً، على دفعات، يرفض حسن الرماّح السفر، ويهرب ملتحقا بالعربة التي تحمل فرسه نجمة، وحين يراه موظفو المحكمة يطردونه، فيجلس منتظراً مقابل باب المحكمة، لينضم إلى فريق المتشردين إلى أن تضرب عاصفة ثلجية مدينة شيكاغو فيتجمد معهم، كما أشرت سابقاً.

مشاركة نسوية
من بين فريق المرمح، "كانت هنالك عشرون امرأة، معظمهن بدويات، ومن بين ركاب السفينة الآخرين المائة وخمسة وخمسين، كانت ثمة امرأة واحدة هي الأديبة هنا كوراني، ممثلة سورية في المؤتمر النسائي العالمي"، حيث أفرد خلف في رواية مساحة للحديث عن وجهات النظر النسوية المتباينة بخصوص ما يتعلق بالمساواة بين الرجل والمرأة، في حين لم يغفل الحديث عن اعتذار سيدات أخريات عن المشاركة في المؤتمر، رغم ترجيح فكرة "الخشية من انتقام السلطات، حيث شاع في الأرجاء خبر غضب السلطان من رسالة الدعوة إلى والدته بريستو قادين!
الخلافات سادت أوساط النساء أيضاً، كما الاتهامات المتبادلة، لكن كوراني في النهاية كلفت إلقاء كلمة نساء سورية أمام المؤتمر، هي التي دار بينها حوار عابر مع حسن الرمّاح في السفينة، عبر فيها عن استيائه من الرحلة التي كان يتمنى أن تعود به الأيام إلى الوراء ولا يشارك فيها.
في الهوامش يشير خلف إلى أن كوراني بقيت في الولايات المتحدة ثلاث سنوات، تطوف من ولاية إلى أخرى، تلقي المحاضرات عن المرأة الشرقية، وتناقش الأميركيات بالحقوق السياسية التي كانت مثار جدل في المجتمع النسوي آنذاك، حتى إن صحيفة "شيكاغو تريبيون" أطلقت عليها لقب "جورج إليوت السورية"، والغريب، "أنها بعد عامين توصلت إلى القناعة التي كانت حاولت المصرية زينب فواز إقناعها بها العام 1892، حول أهلية المرأة للمشاركة السياسية الكاملة، هي التي كانت لا ترى ذلك، كما عبرت عن خيبة أملها من المجتمع الأميركي، الذي كانت تظنه أكثر مثالية مما رأت وعايشت.

إسقاطات
ولا يمكن عزل الرواية التي تطلبت، كما هو واضح من قراءتها، بحثاً مضنياً في كتب التاريخ وحتى مخطوطاته غير المنشورة، وتوظيف ما حصل عليه من كنوز معلوماتية نادرة في رواية بشكل شائق لا يخلو من متطلبات لقارئ متأن، باحث، ومتابع، ويقظ، للإلمام بالكثير من التفاصيل والتشعبات داخل "عصافير داروين" للروائي الفلسطيني تيسير خلف، بحيث يشكل القارئ جزءاً أساسياً من الرواية في البحث عن مزيد من التفاصيل حول التفاصيل على مستوى الشخوص، والتواريخ، والأحداث المفصلية، وغيرها.
والرواية، كما أراها، تحمل الكثير من الإسقاطات على الواقع، فالعرب أو المسلمون، وفي هذه الفترة بالتحديد، لا يزالون عاجزين عن مواكبة التطور العلمي والتقني في الولايات المتحدة وأوروبا وأقطاب آسيوية كاليابان، والصين، وغيرها في قارات متعددة، كما أن الطائفية تزداد وتتعملق، وتقسم البلدان العربية كل إلى أكثر من بلد، فالسودان بات اثنين، وليبيا، والعراق، وسورية، واليمن، ربما لن ينتهي بهم المطاف كما كانت عليه الأمور قبل العام 2011، أما فلسطين، التي خرج منهم صقيلي صاحب فكرة "فريق المرمح"، فلا تزال تحت احتلال يسعى لسلب المزيد منها كل يوم، في ظل انقسام يقسم المقسوم وغير المسيطر عليه بالأساس.
"أميركا ترامب" هي ربما ذاتها "أميركا هاريسون"، وعثمانيو 1893 هم أنفسهم عرب ومسلمو 2018، بينما الجياد التي بيعت في المزاد العلني بأثمانٍ بخسة لا تعادل 10% من أثمانها الحقيقية، باتت نفطاً تحت الأرض وسيولة مالية في الحسابات البنكية، وأسلحة مكدسة في مخازن استخدمت مؤخراً ليضرب فيها العربي عربياً آخر، ولأسباب طائفية في شكلها ما بين سنة وشيعة، وليس بعيداً عن حسابات الطائفية ما بين الأغنياء والفقراء، في حين يبقى الجهل بـ"القوانين الأميركية" سيد الموقف، حيث باتت البلدان العربية وشعوبها تباع في "مزادات علنية وغير علنية"، بل وفي "أسواق النخاسة"، وكما في الرواية هناك العديد من المتخاذلين والمتآمرين لتحقيق مصالح شخصية، هم الآن أكثر كماً وأرفع منصباً ربما، في حين أن من يحاول أن يحاكي صمود "الرمّاح" قد ينتهي به المطاف إلى ما هو أبشع من نهايته التي ترصدها الرواية!
"عصافير داروين" رواية مغايرة بلا شك، وتحتاج إلى أكثر من قراءة لاستيضاح ما وراء سطورها، فمع كل مرة تكتشف الجديد، لرواية قامت في تسميتها على زيارة تشارلز داروين في القرن التاسع عشر إلى جزر "غالاباغوس"، وعبر اكتشافه أن طيور هذه الجزر التي تنتمي إلى خمسة عشر نوعاً تعود إلى سلف واحد، فكانت نظرية النشوء والارتقاء التي يرفضها المسلمون إلى يومنا هذا باعتبارها "مخالفة للشريعة" والرؤية الإسلامية للخلق، وتوظيفها على الهامش وفي العمق للحديث عن جهل عربي يتواصل على أكثر من مستوى، مع أن علماء الأحياء من جامعة برينستون الأميركية، اكتشفوا نهاية العام الماضي، طيوراً "جديدة" لم يصفها علماء الحيوان، وهي من نوع "عصافير داروين"، وهي طيور هجينة تميزت بمنقار مختلف في الشكل والحجم عن بقية طيور الجزيرة، كما تتميز بصوت مختلف أيضا عن أصوات سلالتي أبويها، وهي لا تتزاوج إلا مع أبناء جلدتها الهجينة.
يذكر أن هذه الجزر شهدت جفافا العام 2002، أدى إلى موت جميع الطيور من هذا الصنف الهجين الجديد، باستثناء اثنين من جنسين مختلفين، ولد بتزاوجهما 26 فرخا جديدا، وبقي منها 9 فراخ، وبلغ عددها 23 العام 2012، في حين كانت الطيور الهجينة أكبر من جميع أنواع الطيور على هذه الجزيرة، ما مكنها من التأقلم مع أنواع أخرى من المواد الغذائية، وهذا قلل المنافسة على الطعام مع الطيور الأخرى، ما أعطاها فرصة كبيرة في البقاء على قيد الحياة .. إذاً "عصافير داروين" ما زالت قادرة على البقاء، ولكن ماذا عن "فريق المرمح الحميدي" في الألفية الثالثة؟!

amm
Developed by: MONGID | Software House الحقوق محفوظة مفوضية الإعلام والثقافة © 2024