الرئيسة/  ثقافة

لستُ صديقاً لمحمود درويش !

نشر بتاريخ: 2018-05-22 الساعة: 09:24

رام الله- الايام- "لست صديقاً لمحمود درويش .. كانت علاقتي معه علاقة هاتفية"، هكذا بتلقائية ودون ادعاء بدأ الشاعر والمترجم فادي جودة الحديث عن تجربته مع الشاعر الكوني، ورمز فلسطين الثقافي، مقدماً شهادة تستحق أن تنشر كاملة، لكنني هنا سأحاول إجمال أبرز ما جاء فيها.
جودة، أعد ورقة لندوة بعنوان "محمود درويش: شخصية الثقافة العربية للعام 2018"، وهي واحدة من ندوات معرض فلسطين الدولي الحادي عشر للكتاب، جاء في مطلعها: "احفظ هذه الأبيات ولك هذه القروش"، قالي لي خالي وأنا لم أبلغ الخامسة بعد في شقتنا بعمارة المفتي في بنغازي .. حفظتها وبقروش اشتريت العدد الجديد من مجلة العملاق المصورة من الدكان على باب العمارة .. ثلاثون عاماً مرت كنت أقلب صفحات المجلد الأول لأعمال محمود درويش، ذاك الكتاب البنفسجي .. حين التقيت بهذه الأبيات، التي فور قراءتي لها أكملتها، ولم أكن أعي أنني أحفظها قبل ذاك اليوم.. هذا هو العرس الذي لا ينتهي، في ساحة لا تنتهي، في ليلة لا تنتهي .. هذا هو العرس الفلسطيني الذي لا يعود فيه الحبيب إلى الحبيب إلا شهيداً أو شريداً.
جودة في الشهادة ذات النكهة الأدبية، أضاف: كما تخون الذاكرة تخان .. لا أستطيع الجزم أن الأبيات التي حفظتها طفلاً في بنغازي هي هذه الأبيات وليست غيرها من شعر درويش (...) ولكن لا غبار على أن هذه القصيدة التي صادف نشرها وقت اغتيال الثلاثي الفلسطيني في بيروت العام 1973 كانت لا شك قصيدة نعيش أصداءها في جونا العائلي، كيف لا و"أبو يوسف النجار" من أقارب أمه.
"ثلاثون عاماً من الصمت والنسيان الضروري .. ليس هذا الصمت الوحيد من الأعراس الفلسطينية التي لا تنتهي .. نسأل أنفسنا: ما هي فلسطين؟ ومن هي الفلسطينية غير الموجودة معي على المنصة هذه الليلة، أعني التي رسمها محمود درويش في شعره، وهي ليست أحادية الوجه والصفة، وكما قال أنطون شمّاس: "دائماً سنعرف أن خريطتين لفلسطين لن يستطيع السياسيون التنازل عنهما: الأولى يحفظها الفلسطينيون اللاجئون في ذاكرتهم، والثانية يرسمها محمود درويش في شعره".
ومع الاتجاه لصبغة تحليلية، قال جودة: تحولت فلسطين في شعر محمود درويش مع العقود على رسل تحول مفرداته، في البدء كان الصخر والرمل والأزرق، وفي الختام كان زهر اللوز وأثر الفراشة .. فلسطين الثورة والجمال والمحبة، فلسطين الاحتلال والهزيمة واليأس، فلسطين المرأة ... نتساهل كثيراً في الافتراض أننا ندرك كفاية أو تماماً كل هذه الأعراس الفلسطينية في شعر محمود درويش.. فلسطين الواقع وفلسطين المجاز، وفلسطين الشطح والفناء والمنفى، أليس الشطح أيضاً رحيلا؟ .. فلسطين المتحدث الرسمي باسم حال العصر، عصر الدولة القومية الحديثة شعاباً وشعوباً .. سينقضي هذا الزمن، ويبقى من آثاره ما كتبه محمود درويش عن وهم الحدود والهوية، والظلم والظلام والضوء والنور.
"صباح الخير يا ماجد صباح الخير .. قم اقرأ سورة العائد وحث السير" .. باقية هذه الكلمات للفلسطيني وغير الفلسطيني، وغير العربي وغير المسلم .. "كم من أبيات لدرويش ستعيش على ألسنة متفرقة يرددها الزمان المكان المستقبلي كما نردد الآن أبياتاً متفرقة لشعراء الماضي ... يسأل درويش ويجيب، والحديث لفادي جودة، "ماذا سيبقى من كلام الشاعر العربي؟ .. هاوية وخيط من دخان .. ماذا سيبقى من كلامك أنت؟ .. نسيان ضروري لذاكرة المكان".
وأشار جودة إلى أنه "إذا كان شعر درويش بحد ذاته مكاناً وزماناً، فعلينا أيضاً القيام بالمهمة الصعبة، النسيان الضروري لشعره، لكي نتذكر أفضل ما ينقصنا".
وتذكر جودة: خلال مكالمة هاتفية مع محمود سألته عن مفرداته التي تدل إلى سبيل غامض الوضوح أو واضح الغموض، سألته عن الياسمين والرمّان والغيوم والغزال والبنفسج، قال لي بكل بساطة: "لكل شاعر معجمه اللغوي الخاص"، فكان هذا الدرس الأهم لي في علم الجمال .. أعلم أن هناك كتاباً يفهرس كل الألفاظ المترددة في شعر محمود درويش، وأعتذر لنسياني اسم كاتبه .. ما ينقصنا الآن هو ما بعد التقفي وما وراء الشرح اللغوي والسرد الذاتي لرواية محمود درويش مع كلماته .. نحتاج إلى رسم جديد لقدرة الهوية الفردية على الترحال، طفرة الذات التي يصيغها الزمان والمكان وتصيغه، كأن الذات طير من طيور الأرخبيل.
وتساءل: مثلاً، متى ظهرت المفردات والعبارات الصوفية في شعر درويش؟ قبل قصيدة "الهدهد" أو حينها؟ وماذا حدث لها بعد ذلك وصولاً إلى "ضباب كثيف على الجسر"، حيث يتقلب محمود درويش كعبّاد الشمس التي قد تكون آخر المفردات التي أدخلها إلى لغته.
وتابع: يقول البعض إن مفردات درويش التي ترسم شعره وتزيّن إيقاعه هي انعكاس ملحوظ للتطورات ومحدودية القصيدة الحديثة وبالذات قصيدة التفعيلة .. مفردات درويش تنقضها خصوصية اليومي في عصر التكنولوجيا وعلم النفس والانغماس الذاتي في الوعي الذي هو نتاج حياة رأس المال وطواحين هوائها مع الساعة الكادحة (...) لكن ما يعني هذا حين تتغير لغة الشعر بعد نصف قرن إلى تفاصيل ومصطلحات جديدة تعكس حال وواقع الجمال الجديد، كأننا نقول: "النثر من أمامك والبحر من ورائك، فأين المفر؟".
وأكد جودة: الشعر أكثر من مجرد تدوين تاريخي لزمن ما ولسان ما، والشاعر لا يجبّ ما قبله، بل يلخصه بلسان حاله، فيكون اللسان خادماً في بلاط التاريخ، أما الجسد فهو الذي يبقى نسياناً ضرورياً لذاكرة المكان (...) ويقول البعض إن مفردات درويش تعكس علاقته بالتفعيلة لأن الكثير من المفردات لا تناسب الوزن، وهذا حق يراد به باطل، فبعيداً عن الوزن والمكيال، أستشهد بقول سليم بركات في وصف محمود درويش هو الأصح والأدق هنا "إنها المسافة تأتيه مختبلة لتتقوض في جمالها".. هذه "المسافة المختبلة هي من دلني على الفراشة في شعر محمود درويش وبالتحديد على عبء الفراشة .. "لا أعود من الشام حيّاً أو ميّتاً، بل سحاباً يخفف عبء الفراشة عن روحي الشاردة"، كتب درويش في قصيدة "طوق الحمامة الدمشقي".
في العام 1977، وفي ديوان "أعراس"، أعلن محمود درويش عن حضور الفراشة في عنوان قصيدته "عبء الفراشة" .. "ستقول لا وتمزق الألفاظ والنهر البطيء .. لا للمسرح اللغوي، لا لحدود هذا الحلم، لا للمستحيل .. تأتي إلى مدن وتذهب، والقصيدة خلف هذا البحر والماضي ستشرح هاجساً فيجيء حراس الفراغ العاجزون الساقطون من البلاغة والطبول .. سيجيئك الشهداء، سوف تطردهم فلا يمضون، ويجيئك الفقراء، لا خبز لديك (....)" .. وأشار جودة إلى أن لفظ الفراشة غير موجود في متن القصيدة، بل فقط في عنوانها، وها هي بعد عشرين عاماً ترفض عبئها مرة أخرى، وتلحقه بلفظة أخرى تعيدني إلى ذاكرتي الأولى .. روحي الطفل الشاردة، حيث لا يعود الحبيب، ولا أعود حيّاً أو ميّتاً بل سحاباً شهيداً أو شريداً .. هو الشرود يعود، ولكن لا يعود كما كان، كما تحدث جودة عن الفراشة في قصيدة "من سماء إلى أختها يعبر الحالمون" في مجموعة درويش "لماذا تركت الحصان وحيداً؟"، حيث "الفراشة ما لم تقله القصيدة".
وأختم بعودة أخرى لجودة إلى جادة الذكريات، قائلاً: ضحك محمود درويش كالطفل أمام لعبته الحميمة حين أخبرته أنني سأطلق على ترجمتي لأعماله اسم "عبء الفراشة" .. كانت ضحكة من أطلق سراحه، وقال لي "ثقل الخفّة .. ثقل الخفّة".
وفادي جودة شاعر ومترجم وطبيب فلسطيني أميركي من مواليد مدينة أوستن بولاية تكساس في العام 1971 لوالدين مهاجرين فلسطينيين.. نشأ في ليبيا والعربية السعودية ثم عاد إلى الولايات المتحدة لإكمال دراسته في الطب بجامعتي جورجيا وتكساس ويمارس حاليا مهنة الطب في مدينة هيوستن كما تطوع للعمل في منظمة أطباء بلا حدود.
نشر جودة أشعاره في أبرز المجلات الأدبية في أميركا وفازت أولى مجموعاته الشعرية المعنونة "الأرض في العلية" بجائزة جامعة ييل للشعراء الشباب العام 2007، كما ترجم مختارات من أشعار محمود درويش ونشرها تحت عنوان "عبء الفراشة"، رشحت لجائزة بن (PEN ) للشعر المترجم للعام 2006، ومجموعة أخرى تحت عنوان "لو كنت غيري" العام 2009، وترجم ونشر أيضاً مختارات للشاعر الفلسطيني غسان زقطان تحت عنوان "كطير من القش يتبعني وقصائد أخرى" فازت بجائزة غريفن العالمية للعام 2013، فيما أصدر مجموعة في ذات العام بعنوان "مشتعلا".

amm
Developed by: MONGID | Software House الحقوق محفوظة مفوضية الإعلام والثقافة © 2024