حسين البرغوثي.. إرباك "النظام"
نشر بتاريخ: 2018-03-27 الساعة: 08:48رام الله- الايام- يقتصد حسين جميل البرغوثي في حديثه الأخير أمام كاميرا صبحي زبيدي**، فالحروف المنهكة أنفاسٌ تعزّ بها بقايا رئة هزمها السرطان. يحكي حسين بعناد من تحت وصلات الأكسجين، وينظر إلى الكاميرا بعينين يشع منهما خليط من الحزن الفرح، الحزن نَبعه موعد وشيك مع الموت، أما الفرح فعميق ومبرَّر: "حققت شيئاً من حلم قديم: ألاً أمر على هذه الأرض ولا أترك أثراً".
أتذكّره يقول في إحدى محاضراته المرتجلة: "لاحظوا أن النَّفَس والنَّفْس يمتلكان الجذر نفسه في اللغات القديمة، وكذا الريح والروح، المفردات تحمل ذاكرة تتجاوز معناها، وفك شفرتها مصدر معرفي مهم"، كانت تلك متعة حسين العميقة، وفيها تجلت لياقته الذهنية العالية: أن يفكّ الأشياء الصغيرة ويعيد تركيبها وموضعتها في سياقها الكوني الكبير، أو أن يحضر عدسة كونية فيضيء بها على شيء مهمل، في تمرين دائم وعابر لحدود المدارس الفكرية والتصنيفات الإبداعية.
عند قراءة سيرة حسين الروائية، أو روايته السيَرية، يلفت الانتباه ما تعرض إليه من أذى، بدءا من طفولة شهدت أكثر من محاولة اغتيال أداتها اللغة (الشيخ الذي لقبه بـ"السطل")، وصولاً إلى فصله "إقصائه" من دائرة الدراسات الثقافية في جامعة بيرزيت، مروراً بما همس له به "بيري" في "الضوء الأزرق": "هناك من يحسدونك على قُواك"، فما هي قوى حسين هذه التي يحسد عليها؟
انتمى حسين إلى حلم مختلف، "أن يترك أثراً على هذه الأرض"، فكان سقفه من العلو بحيث لا يراه "ذوو الطاقة المنخفضة" كما سماهم، كان مجرّد وجوده المتصالح مع ذاته مربكاً لافتراضاتهم ولصفقاتهم، فتعمدوا إيذاءه بأدوات وصلت أحياناً حدّ البذاءة.
أراد أكاديمي مرّة الانتقاص من منجزه في صيغة سؤال ماكر: "حسين، لماذا لا تكتب بالإنكليزية وتنشر في دوريات أجنبية؟" فكان الجواب: "سيأتي يوم يبحثون فيه عما أكتبه بالعربية عن كوبر (قريته) ليترجموه". وكأن حسين يقول: إن العالمي ليس ما ينشر هناك أو يترجم إلى هناك أو يعترف به هناك، فهنا أيضاً عالمي إذا امتلكنا الثقة بجدارتنا والإيمان بحصتنا على هذه الأرض، والكفاءة لاكتشاف الجمالي فينا وحولنا.
علّمنا مبكراً: المهم أن نغير المناظير، وزوايا النظر باستمرار. صنع فان كوغ من حذاء مهمل لوحة عالمية. يتعلق الأمر بزاوية النظر. وقال محذراً من الدونية الثقافية: الحلول الروحية العميقة لأسئلة الإنسان الكبرى جاءت من هنا، من الجنوب.
تأخر الاعتراف بحسين، ربما كان من جملة الأسباب ما خضعت له ثقافة الداخل من حصار، وما صبغ منتجها من بلاغة، فلم تؤخذ على محمل الجدّ، وحُشر التعامل معها في خانة التضامن ودعم الصمود، وربما ساهم في ذلك بعد "الداخل" عن الروافع الإعلامية لـ "المركز" الفلسطيني في الخارج، ربما. لكن الأكيد أن حسين لم يبحث عن اعترافات من خارجه، وإنما عن منجزات تحقق له الرضا من داخله، وتعامل مع ما تبقى كتحصيل حاصل، وبذا جاء الاعتراف به مدوياً وعميقاً.
كان حسين مثقفاً شجاعاً بما تحمله الكلمة من معنى، في وسط مسرف في الاطمئنان، اختار حسين أن ينسف هذا الاطمئنان من بداياته. كتب "أزمة الشعر المحلي" وهو في العشرينات من عمره، بعد أن قرأ المنجر الشعري في الأرض المحتلة، وقال بشجاعة ما توصل إليه، وخلاصته أنه لا يوجد لدينا شعر محلي يعتد به، ليتفاجأ بعد نشر الكتاب أنه ملاحق من معظم من سماهم "شعراء "الفصائل"، وليصدمه كَم أنَّ النقد في بلادنا يفهم على نحو شخصي.
كان "أزمة الشعر المحلي" تمريناً جميلاً استند فيه حسين إلى أدواته الماركسية، لكن الكتاب يكشف عن قدرة حسين المبكرة على توسيع رئة المنهج في تطبيقه.
وما يثير الانتباه، أيضاً، عدم الالتفات إلى كتابه الثاني "سقوط الجدار السابع"، الريادي في سياقه الزمني (مطلع الثمانينيات)، ففي هذا الكتاب يشتبك حسين مع أسئلة الشعر الكبرى، ويغوص عميقاً في سيكولوجيا الشعراء الكبار، بحيث يضع المتنبي ومظفر النواب وعروة بن الورد وابن العربي على طاولة تشريح واحدة. ما زلت أعتقد أن الكتاب لو وجد رافعة نشر لترك أثراً مؤسساً على مستوى عربي.
حققت سردية حسين الفائضة بالشعر الاختراق. لكن حسين الشاعر، برأيي الشخصي، لم يُقرأ شعريا بتأن، أو أن أعماله جميعها قرئت بذائقة واحدة. تحتاج قراءة إنتاجات حسين عموماً، والشعرية خصوصاً، أن نمنح أنفسنا فرصة، فنتحرر قليلاً من أسر ذائقتنا.
لم يحلم حسين بتجاوز شاعر بعينه، بل حلم دائما بإحداث إزاحة منظومية. كان في اشتباك مع قوانين الشعر، فكر في عمل يفجرّ شاعرياً حدود الشعر ذاته، هذا ما تكشفه رحلته في السادن وتنقيبه في ذاكرة الشعر العربي، عبر استبطان طاقة المكان، ولا وعي الأديان، والمستحاثات الميثولوجية العالقة في طبقات اللغة ذاتها.
اجتاز حسين النهر في "مرايا سائلة"، وكبح جماح الفلسفة التي غالبت صوت قلبه، لقد تجرأ قلب حسين المختبئ وراء عقل لامع، وصعد إلى المنصة، ليصنع من الخبرة مادة تتجاور فيها الأشكال الفنية وتتنافذ كما حَلم دائماً.
قال لي مرّة: يئست من تحطيم ما هو قائم، هذا قتل للوقت والجهد، ما أحاوله إنجاز بناء مجاور للموجود. كثيرا ما اختار حسين "التجنّب"، تجنّب النظام، وبدل الاشتباك معه، حلّق فوقه، وأربكه.
نجا حسين من وهم الكمال والاكتمال، فلم يجعل من نفسه مرجعيةً لكل شيء، ليخلق الأشياء على صورته، ويخنقها عندما تتهيأ لخلق صورتها. درّب حسين نفسه على السماح للأشياء بالتنفس عبره ومن حوله، في نسق ثقافي جمعي مأزوم، يخلق فيه الروائي الأبوي شخصيات جميلة، لكنه سرعان ما يخنقها خوفاً على صورته عن ذاته، وخوفاً من فقدان سلطة غير متحققة.
لا أعرف كيف تجرأت مرة وسألته، لماذا لا يحول معرفته إلى حضور سياسي، في سياق مقارنة مع أكاديمي متين بدأ نجمه يلمع في السياسة، فقال: أعرف أن المعرفة قوة وأن تجسيدها كمكانة ممكن. أنا لا أريد، لدي قرار بهذا الشأن. سؤالي الأساسي سؤال جمالي، أنا وفيّ لهذا السؤال وله فقط.
حسين الإنسان هو المفارقة الذكية، واللمحات البارعة، و"الضحك من المعدة".
صدفناه على الثانية ليلاً، في أواسط التسعينيات، خارجين من جريدة "الأيام"، يمشي في الشارع، وحيداً، توقف السائق "أبو خليل" (عرفت يومها أنه ممثل مسرحي يعرف حسين عبر المسرح) وسأله: ماذا تفعل وحيداً في منتصف الليل؟ فأجاب ضاحكاً "من قاع معدته": أريد الاستمتاع بحريتي قبل أن تصبح لدينا أجهزة أمن قوية!
الحريّة، كلمة السرّ في كل ما فعله حسين، أراد دائماً أن يحوّل التمثال إلى حالة رقص، والمعمار إلى لوحة متماوجة على صفحة الماء.
كنت إلى جانبه يوم بثت "الجزيرة" مقولة الزعيم المحاصر ياسر عرفات: "يريدونني، إما أسيراً، وإما طريداً، وإما قتيلاً". قال حسين: "هذا ليس واقعاً، هذا مقطع تراجيدي من مسرحية محتملة لشكسبير".
لم يكتب حسين نفسه فقط، لكنه كتب من خلال نفسه. لم يكتب وكأنه محور العالم، إنما وضع ذاته في خدمة فهم العالم، من الطفولة الشقية حتى تحويل السرطان إلى موضوع ومساحة للاشتباك والمكاشفة والمعرفة.
في الملف، مساهمات وشهادات تشبه حسين في تنوعها وسعتها، تستعيد روحه الحرة في حاضر من الاستبداد والاستعباد، وتعيد استدراج نصه الجميل، تستقوي به على سياق تعمّه البشاعة.