رواية "الحالة الحرجة للمدعو ك" للسعودي عزيز محمد .. الحياة ما بين دفتي كتاب!
نشر بتاريخ: 2018-02-06 الساعة: 10:02رام الله- الايام- يمكن اختصار رواية "الحالة الحرجة للمدعو ك" للسعودي عزيز محمد، والصادرة عن دار التنوير للطباعة والنشر، وتنافس على الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) 2018، بوصولها إلى القائمة الطويلة للجائزة، بأنها رواية تعكس الحالة النفسية والجسدية لمريض السرطان التي برع الكاتب في وصفها، وهي تأخذ خصوصية هنا بتعاملها مع مريض قارئ، قرر مع الوقت، سواء في النصف الأول من الرواية (ما قبل اكتشاف المرض)، أو الثاني منها (ما بعد اكتشافه)، استبدال شخوص الروايات بالبشر، والتعامل مع القراءة التي بدأ معها منذ الصغر، وأخذته إلى أماكن بعيدة عن محيطه، وكأنه أبحر في رحلة طويلة رفقة الكتاب وما ابتكروه من شخوص.
تقع الرواية في 270 صفحة مقسمة الى أربعين أسبوعاً، هي فترة تطور المرض، وتدهور حالة الشخصية المحورية في الرواية، أي "المدعو ك"، والذي يحكي لنا يومياته في العمل ومع العائلة، وهي المناطق التي لا يجد نفسه على مقربة منها.
يعمل "المدعو ك"، وهو شاب عشريني في شركة بتروكيماويات منذ ثلاثة اعوام، بحيث لا يختلط كثيرا مع الموظفين او مع رؤسائه في العمل، ولا يرى أية أهمية للتميز والنجاح في الوظيفة .. هو الأخ المتوسط لاخت تصغره بعامين، واخ يكبره .. والده توفي اثناء دراسته الجامعية، وكانت امه ترى انه يجب ان يقلع عن السجائر، وأيضاً الكتب، مرددة "الى متى تنفق نقودك على ما يضرك".
يعود "المدعو ك" مجهول الهوية الى طفولته المفعمة بشغف القراءة والكتابة، وبعشق خاص لحصة الانشاء والتعبير في المدرسة، ومع الوقت انتقل هذا الحب الى منزل العائلة الغني بمجلدات التراث وكتيبات الدين، لكنه مع الوقت ابتعد عن هذه الكتيبات مع ازدياد اهتمامه بالفكر والأدب الغربيين في مرحلة الدراسة الثانوية، وخاصة بعد قراءته لرواية "الجوع" للكاتب النرويجي كنوت هامسون، وصدرت العام 1890، وكان لها خصوصية بالنسبة له.
"أذكر أنني أنهيت الرواية بكاملها في يوم واحد، لم أكد أتناول فيه شيئا لشدة انقطاعي للقراءة. تم استيقظت في اليوم التالي عليلا مضطربا، هائج الذهن لفرط الجوع، فريسة لذات التأثيرات التي مرَ بها بطل القصة، والتي استمدها هامسون في حياته الخاصة. لكنني وجدت نفسي متشوقا لأن أقاسي ما هو أفظع من مشقات هامسون إن كان هذا سيمنحني القدرة على أن أكتب مثله. في ذاك الصباح، عاجزا عن التفكير بأي شيء آخر، رحت أدعو الله، باستعطاف محموم، أن يعاقبني على الابتعاد عنه بمختلف التعاسات، مقابل أن يمنحني القدرة على التعبير عما سيجازيني به من شقاء. كان ذلك شيئا أشبه بالنذر، ولعله كان نوعا من التعويض الروحاني، أو شكلا بديلا من أشكال الالتزام" ... "أتبعت تلك الرواية بأخرى. فحين علمت أن الكاتب المعدم في الجوع تأثر بشخصية راسكولنيكوف. عكفت على قراءة "الجريمة والعقاب"، وتأثرت بها أيضا أعظم تأثر، بالتزام بطلها بفكرته واندفاعه للتورط التام في التجربة، حتى خطر بذهني أن أرتكب جريمة قتل عشوائية ما، فقط لأقاسي عذابات راسكولنيكوف، وأحس في نفسي بصراعاته الداخلية".
كان هذا الحال الذي عليه "المدعو ك"، وهو الذي لا يحظى بإعجاب عائلته، وخاصة امه التي كانت ترى انه يجب ان يترك تفاهات القراءة والكتابة، وأن يزور جده، أو أن يفكر في الزواج وتأسيس عائلة، كما لا يعجبها ايضا عدم اهتمامه بعمله وتطوير وضعه المهني مثل اخيه الأكبر.
أما علاقته بأخته ذات الشخصية القوية فكانت باردة باهتة متوترة يشوبها الصمت، فهي الان تعقد صفقة زواج بين اخيها الأكبر مع ابنة عائلة كبيرة ومرموقة، لفرط اهتمامها بالمظاهر على عكسه، بل إنه حتى قبل زواج اخته لم تكن علاقتهما على ما يرام، حيث تخلل طفولتهما كثير من المشاجرات والتناحر، وهذا يعكس تفرده الذي قد يراه البعض مرضاً نفسياً، أو نوعاً من التوحد، لكنه التوحد هنا مع أبطال الشخصيات الروائية لكافكا ودوستويفسكي وهامسون وغيرهم، قبل أن يتملكه مرض غير نفسي، مرض قاتل، وأعني السرطان.
مع تفاقم أعراض المرض، وبدء سيطرته التدريجية على جسده بدأ يقضي "المدعو ك" وقتاً طويلاً في المشافي، تصل إلى ثلاثين يوماً متصلة في بعض الأحيان، حيث التدهور المتواصل سيد الموقف، فجلسات "الكيماوي" في ارتفاع، وتساقط الشعر وغيره مما يرافقها بات جلياً، لكنه بقي على قيد القراءة، رغم كل "الوجع".
ففي الأسبوع 21 .. "أستيقظ فجأة. كل شيء يبدو غريباً حين أفتح عينيّ. ألاحظ أنني في غرفة مستشفى. أتعرق، أشعر بالبرد، تصطك أسناني. وجه الممرض الأسمر يخترق فجأة بياض السقف، ماذا يريد؟ يقف فوقي وينادي أحداً. يبقى محدقاً نحوي، وجهه القلق مرآة لسوء حالتي. يدخل الطبيب في إطار السقف ويخرج منه الممرض. أراه يوجه التعليمات، يتحدث باتجاهي، ألاحظ بعد وهلة أنه يناديني، ثم لا أدرك شيئاً".
ولـ"المدعو ك" المولع بالأدب الغربي دون العربي، جد ذو حضور متجهم يحظى بمهابة
واحترام الجميع، وخاصة أبناءه وأحفاده الذين يطلقون عليه لقب "أبو الهول"، هو الذي يُعرف بصلافته حتى مع "المدعو ك"، والذي يرحل خلال رحلة علاجه من السرطان، هو الذي كان في لحظة نادرة أطلق دمعات صامتة إلى وجنتيه عند معرفته بنبأ إصابة حفيده بالمرض، وهو من كان أوصى بمبلغ مالي كبير للحفيد المريض لتغطية نفقات علاجه الباهظة، ما أثار حفيظة أبنائه، أي أعمام "المدعو ك".
تتواصل يوميات "المدعو ك" مع المرض، ومع القراءة أيضاً، فكان "كافكا" ورفاقه من الروائيين والكتاب أطباءه الذين اختارهم لعلاجه كلما اشتد به الألم، فغطس في "خاسران على الناصية"، و"وحيدة في غرفة أمسح الغبار"، و"الحب كلب من جحيم".
و"خاسران على الناصية" مجموعة شعرية لكيم أدونيزيو، أما "وحيدة في غرفة أمسح الغبار" فهي مجموعة شعرية مترجمة حديثاً كسابقتها للشاعرة دوريان لوكس، في حين أن مجموعة "الحب كلب من جحيم" هي للشاعر تشارلز بوكوفسكي.
ويمكن الربط بشكل أو بآخر بين حياة "المدعو ك" في الرواية، والتي لربما كانت تحمل شيئاً من السيرة الذاتية لكاتبها، بشيء من حكاية كافكا، حيث كانت حياته مليئة بالحزن والمعاناة، بما في ذلك علاقته بوالده، فكافكا كان مثقفا حساساً وقع تحت حكم والد مستبد وقوي، ولعله رمز للقوة هنا بشخصية جده "أبو الهول".
كافكا الذي توفي متأثراً بإصابته بمرض السل في عمر يناهز الأربعين عاماً، كانت علاقاته النسائية متذبذة للغاية، في حين أن "المدعو ك" لم يكن يبدي أي اهتمام بأي ارتباط مهما كان نوعه مع الجنس الآخر.
وبلغة سلسة وبعيدة عن الركاكة، لا يمكن إغفال تركيز الروائي السعودي عزيز محمد على التفاصيل في الكثير من الزوايا التي عالجها، حتى إنه يخال للقارئ أنه خبير بمرض السرطان، كمصاب أو قريب من مصاب، أو حتى طبيب متخصص، لفرط انشغاله وإشغاله القارئ بجزئيات ليست مقحمة ولا زائدة حول المرض وعلاقته بـ "المدعو ك"، هذا الذي ارتمى في حضن الشخصيات المبتكرة من روائيين وكتاب غربيين، بعيداً عن حضن الحياة.
amm