الرئيسة/  مقالات وتحليلات

ثقافة المبالغة والتضخيم والتبجيل والألقاب

نشر بتاريخ: 2024-11-17 الساعة: 14:25

 

د. فواز عقل


تبدأ هذه المقالة بحكاية وحوار بين الأستاذ الياباني مع حكيم الإدارة العربي

 قال الأستاذ الياباني: لاحظت أثناء تجوالي وبحثي أن صاحب المحل التجاري الواحد في بلادكم يسمي محله الأوحد "محلات" وصاحب المؤسسة الصغيرة يسمي مؤسسته "المؤسسة العالمية" ومالكو الشركة المتواضعة يسمون شركتهم "الشركة الدولية"، ألا تجد في ذلك تضخيماً ومبالغة تجافي الواقع؟

أجاب الحكيم مبتسماً: نحن نعشق تضخيم الأشياء والوقائع وتفخيمها والنفخ فيها حتى نجعلها ذات طنه ورنه كرنة الطبل الأجوف وأحمد الله أنك لا تقرأ العربية وإلا لكنت اطلعت على صحفنا فعرفت كيف نسمي كل نجاح عادي بأنه نجاح باهر، وكل قرار مألوف بأنه قرار رشيد، وكل اجتماع عابر بأنه اجتماع مثمر، وكل إنجاز طبيعي بأنه معجزة، وهذا جزء من تراثنا المجيد فقد كان شاعرنا إذا افتخر بقومه وصلت به المبالغة حد القول: "إذا بلغ الرضيع لنا فطاماً... تخر له الجبابر ساجدينا".

قال الأستاذ الياباني مستغرباً: لكن المبالغة والتفخيم والتضخيم تعمي عن إدراك الواقع على حقيقته وتقعد  الإنسان عن بلوغ الإنجازات الفعلية الواقعية.

عبس الحكيم كأنما مسه الغضب، وقال: وهل أجد لديك وسيلة أخرى غير المبالغة والنفخ في الأشياء نداري بها العجز والنقص؟

وهناك اسئلة تثقل كاهلي وكاهل الكثيرين حول الموضوع:

•هل الثقافه هي المسؤولة عن ذلك؟

•هل يجد الإنسان في المبالغة والمسميات والألقاب طريقة لمواجهة العجز والنقص؟

•هل الكلمات والمصطلحات تؤدي إلى احتلال العقل؟ وكما يقال احتلال العقل يبدأ من احتلال اللغة.

•وفي هذا العصر هل التعليم هو المسؤول عن ذلك؟

* وهل اللغة هي المسؤولة عن ذلك؟

* وهل يتأثر الناس بالكلمات والخطب والشعر فقط دون مراعاة ما وراء الكلمات والخطب؟

* هل العرب مغرمون بالمبالغة والألقاب والتبجيل والتضخيم التي تدل على العظمة والتميز لكي يلفت الإنسان الانتباه إلى وجوده ونسبه وحسبه؟

إن المبالغة والتضخيم والتبجيل والألقاب ظاهرة قديمة متجددة في التاريخ العربي، ولقد قرأنا في التاريخ أن شيخ القبيلة مثلاً كان مميزاً ويعلن الحرب والسلام، ويتحكم في أمور القبيلة، وظهر لقب الملك عند الغساسنة والمناذرة في اليمن، ثم ظهر لقب الخليفة والسلطان، وفي الأندلس اشتغل كل حاكم في منطقته وسماها إمارة ثم جاء لقب أمير، وقد وصف أحد الشعراء ظاهرة الألقاب بقوله:

ما يزهدني في أرض أندلس... أسماء معتمد فيها ومعتضد

ألقاب مملكة في غير موضعها... كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد

وفي الجاهلية الأولى افتخرت بالآباء والنسب وتكبرت بالقبائل، وهذا أبو فراس الحمداني يقول:

ونحن أناس لا توسط بيننا     لنا الصدر دون العالمين أو القبر

وقال شاعر آخر:

فغض الطرف إنك من نمير      فلا كعباً بلغت ولا كلاباً

وقال شاعر آخر:

إذا غضبت عليك بنو تميم         حسبت الناس كلهم غضابا

وقال آخر:

إذا بلغ الرضيع لنا فطاماً     تخر له الجبابر ساجدينا

ولو أرسلت رمجي مع جبان     لكلن بحده يلقى السباعا

وهذا جرير يقول:

هذا ابن عمي في دمشق خليفة         لو شئت ساقكم إلى قطينا

وقال شاعر آخر:

ألا لا يجهلن أحد علينا         فنجهل فوق جهل الجاهلينا

ونحن نعشق المبالغة والتفخيم والألقاب والتهويل والتبجيل ونفخها ونجعلها ذات طنة ورنه كرنة الطبل الأجوف، ونعشق توليد المصطلحات والتسميات الكبرى وصناعة العناوين.

فإذا كنت تسير في أي شارع عربي فترى الشعارات والمسميات الفخمة:

* فصاحب المؤسسة الصغيرة يسميها المؤسسة العالمية.

* وصاحب المؤسسة المتواضعة يسميها الشركة الدولية.

* وكل قرار عادي يقال عنه إنه قرار رشيد.

* وكل اجتماع عادي يقال عنة إنه اجتماع مثمر.

* وكل سفرة عادية يقال عنها إنها سفرة مميزة.

•  وكل إنجاز عادي يقال عنه إنه نجاح باهر.

•  وكل مجلس بسيط يقال عنه إنه المجلس الأعلى.

* وكل صغير سناً يقال له "يا كبير".

* وكل من جلس على كرسي وراء مكتب صغير يقال له "يا باشا".

* وكل من ليس له اسم يقال له أستاذ.

وفي هذا العصر هناك ظاهرة عجيبة هي إطلاق إلقاب وشعارات ومسميات وتعابير مضخمة للذات أو للآخر وكلمات: أبو الخير.. أبو عرب.. أبو العز.. أبو علي.. زين العرب.. المحسن الكبير.. أبو العريف.. صاحب الأيدي البيضاء.. رجل مثقف.. رجل سياسي.. رجل دولة حتى العريس يوصف بأنه عنتر عبس.

وظهرت أسماء أخرى: قاعة الأمراء.. قاعة السلطان.. قاعة الملوك.. محلات الباشا.. محلات الأمير.. محلات الأمانة.. محلات المحبة.. ميدان الحرية.. محلات السلطان.. محلات الوفاء، وأحيانا نلجأ إلى وضع كلمات باللغة الإنجليزية لتسمية محلات وفنادق ومطاعم.

وفي هذه الأيام وقد كثرت النقابات، والمؤسسات، والجمعيات، والنوادي، والأحزاب على طول الوطن العربي وعرضة لتمنح الأفراد ألقاباً ومسميات ودرجات ورتب جديدة تتماشى مع العصر، لأن الكل يدعي العظمة فكل شخص عظيم حسب اعتقاده.

وقال شاعر:

وكل يدعي وصلاً بليلى         وليلى لا تقر لهم بذلك

ولكن كثيرا من الشعراء ركزوا على الأخلاق كقيمة للإنسان أكثر من القبيلة والعشيرة والمنصب والأشعار التالية توضح ذلك:

•  أكابر الناس بالأخلاق تتصف          فليزرع المرء في أقرانه الأدب

* ما عاد أهل العلم سادة قومهم           بل سادهم من يتقن التبجيلا

* ما قيمة الناس إلا في مبادئهم           لا المال يبقى ولا الألقاب والرتب

* لن يلفت الأنظار حسن جوادك          إذا لم يكن فوق الأصيل أصيل

* المرء بالأخلاق يسمو ذكره             وبها يفضل في الورى ويوقر

* إذا لم يكن صدر المجالس عالماً        فلا خير في من صدرته المجالس

* فالمجد ما شادت يمينك                  وليس ما ورثته من حسب وكثرة مال.

ويقول السلطان عبد الحميد:

لم أخش مطلقاً في يوم من الأيام من رجل متعلم، إنما أتجنب هؤلاء الحمقى الذين يعتبرون أنفسهم علماء بعد قراءتهم لبعض الكتب.

وهناك أقوال وحكم تركز وتمجد على أخلاق الناس:

الأدب قبل العلم، والتواضع قبل الشهرة، وقال الرسول الكريم: "تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد".

•الفهم قبل الشهادة والأخلاق قبل كل شيء.

* كل شهادة لا تعكس تواضعاً هي ورقة وحاملها والجدار سواء.

* كل منصب يؤدي إلى التعالي هو انحطاط وقال شاعر:

* يا أخي لا تمل بوجهك عني        فأنا لست فحمة ولا أنت فرقد

* شهادتك منصبك ثروتك قبيلتك هي لك، والعمل والأخلاق هي للناس

•  ليس كل من امتطى جواداً. خيال

•مش كل من يركض في الميدان عداء

* مش كل من صف صواني صار حلواني

•  مش كل من تصور مع كتاب صار كاتباً

* والآية الكريمه تقول: "ولا تمش في الأرض مرحا".

•  وآيه أخرى تقول: "إن الله لا يحب كل مختال فخور".

* وما أجمل ما قال سيدنا عمر "تأهل ثم تصدر".

...........

إن المبالغة والتضخيم والتبجيل والألقاب ظاهرة قديمة متجددة في التاريخ العربي، ولقد قرأنا في التاريخ أن شيخ القبيلة مثلاً كان مميزاً ويعلن الحرب والسلام، ويتحكم في أمور القبيلة، وظهر لقب الملك عند الغساسنة والمناذرة في اليمن.

mat
Developed by: MONGID | Software House الحقوق محفوظة مفوضية الإعلام والثقافة © 2024