الديمقراطية كمدخل لاستعادة الوحدة الوطنية (1)
نشر بتاريخ: 2020-10-06 الساعة: 07:20عاطف أبو سيف
لا يجد أحد نفسه بحاجة لمدح الانتخابات كطريقة تدير بها المجموعات البشرية علاقاتها، ولا توجد تجارب في التاريخ تشير إلى سوء الانتخابات كوسيلة للوصول لأفضل آلية يتداول فيها البشر السلطة فيما بينهم. والمؤكد أن العالم الحديث لم يستعد عافيته بعد الحربين الكونيتين إلا بعد أن تم الاحتكام لصناديق الاقتراع لفض النزاعات، وأن التنظيم الدولي الجديد لم يشهد استقراراً مثل الذي شهده بعد أن باتت صناديق الاقتراع، بكلمات روبرت داهل، هي «اللعبة الوحيدة في المدينة». وربما فيما يفتقر التنظيم الدولي نفسه إلى الديمقراطية بحكم أن مجلس الأمن هو نادي الأقوياء، فإن دوله الأعضاء على علات بعض ديمقراطياتها أكثر ديمقراطية من التنظيم الدولي نفسه.
ومنذ التكوينات البشرية الأولى نزع المواطنون إلى أفضل السبل لتنظيم علاقاتهم، وكانت الصراعات خلال عمليات البحث تلك هي المنطق الوحيد الذي يتم عبره توزيع الثروة والسلطة والملكية في الأساس، وكان الظلم جوهر عمليات القتال التي تدور بلا نهاية. أما الأسئلة التي كانت تنشر إجاباتها على مراحل هي أن الحل الوحيد هو أن يجلس الأفراد مجتمعين من أجل أن يقرروا كيف يحكمون أنفسهم وكيف يجدون الحلول المشتركة لكل مشاكلهم. والحلول المشتركة تعني بالضرورة أن البعض يجب أن يتنازل عما يراه ملائماً لمصلحته مقابل أن يتم تحقيق الصالح العام.
ومع الوقت ظهرت مصطلحات جديدة من باب الصالح العام والجماعة مقابل الفرد. وفي كل الأحوال حتى في ظل النظم الأكثر ديمقراطية، فإن الجماعة لم تعن إلغاء الفرد، وربما النقاش بين «البنائيين» الذي يريدون أن يشكلوا المجتمع على طريقتهم وبين الطوباويين أصحاب النظريات الكبرى، وبين الليبراليين، هو حول نوع العلاقة بين الفرد والجماعة، وهو جوهر كل فكر سياسي عموماً، ومادة النظرية السياسية بتجلياتها المختلفة. وعادة ما كان يتم الانتصار في النظم المختلفة حتى وقتنا المعاصر لأحد هذين القطبين. وعادة ما ظهرت أطروحات بين بين حاولت أن تقيم جسوراً، مستغلة هفوات نظرية هنا وعلات فكرية هناك. وفي كل الأحوال، فإن الصالح العام ظل المصباح السحري الذي يضيء البيت المعتم كما يزعم الجميع.
كان العقد الاجتماعي هو مفتاح الإجابات الصحيحة لتبرير ميل البشر لبناء نظم سياسية واجتماعية مشتركة. فحالة الطبيعة كما يسميها منظرو العقد الاجتماعي تشهد قتالاً مريراً يكون فيه الجميع ضد الجميع بكلمات «هوبس»، وهي لا تقود إلى أي استقرار. وإن نزوع الإنسان إلى الاستقرار بعد استئناس الحيوان وترويض الطبيعة كان يتطلب هدنة مع الإنسان نفسه. بمعنى أن الأفراد باتوا بحاجة ليعقدوا هدنة مع الأفراد الآخرين. فحتى تزرع حقلك، بعد أن تروض الأرض، على الآخرين أن يعترفوا بملكيتك لهذه الأرض وأن يتجاوروا معك في حقولهم، ومنابع الماء، والأمر ذاته ينسحب على مواطن الكلأ والزاد.
كان العقد الاجتماعي إجابة متقدمة للخروج من حالة الطبيعة، وكانت دوافعه تقود إلى نتيجة واحدة، وهي هدنة الجميع مع الجميع، أو قبول الجميع بترتيبات السلطة التي يتم التوصل إليها بغض النظر عن الدافع الحقيقي أو التفسير الفطري لتلك الحالة. فسواء كان الإنسان شريراً بطبعه ويتم ترويضه خلال التجربة، أو أنه خير بطبعه ولكن تلوثه التجربة، فتلك حكاية أخرى تعني الفلاسفة أكثر مما تعني السياسيين رغم أهمية هذا السجال. خلاصة كل ذلك، أن ثمة حاجة ليناقش الناس علاقاتهم فيما بينهم بوصفهم أفراداً مختلفين؛ حتى يصلوا إلى نتيجة مشتركة تجنبهم المزيد من الويلات وتجعل حياتهم أقل كلفة وخطورة، وحتى يدافعوا عن بعضهم البعض لحظة الخطر الكبير الذي تشكله الجماعات الأخرى البعيدة والقريبة، أو تلك التهديدات التي تفرضها الطبيعة. من هنا كان التوصل إلى مثل هذا العقد ضرورياً في بناء الدول وتطويرها سواء أكان مادياً أو قانونياً، وبالتالي في مواصلة ازدهار الحضارة وتطور اكتشافات الإنسان العظيمة من النار والقراءة إلى معاول لدفع البشرية قدماً في وجه الطبيعة، حتى وصل إلى ما يمكن تشبيهه بالسيطرة الكاملة عليها وفق حدود المنطق. كانت هذه مرحلة في غاية الأهمية، وهي التي مهدت الطريق حتى لظهور الدين وتطوره وانتشاره بوصفه أيضاً دعامة حقيقية في خلق حالات التضامن الداخلي بين الأفراد، بوصف أن خالقهم واحد وطريقة تفكيرهم به طريقة واحدة، وإيمانهم بما بعد الموت مشترك.
العقد الاجتماعي لم يفض إلى الانتخابات، بل قاد إلى فهم ضرورة اشتراك الأفراد في تصور مقبول حتى لو كان من باب الإجماع الرخو حول آلية إدارة حياتهم. وعليه اختلفت سبل هذه الإدارة. وظهر في التاريخ الخلاف الحاد بين النظم السياسية، وربما دخلت الأديان في هذه الترتيبات، إذ إن رجال الدين كانوا منذ فترات التدين الأولى لاعبين أساسيين في تحديد مواقع القيادة والحكم. وبشكل عام، رغم ما ظهر من تكوينات شبه ديمقراطية وتكوينات أخذت أشكالاً أكثر تقدماً مما كان وفق ترتيبات كبيرة في تجمعات بشرية كبيرة وبعضها في نطاقات حضرية وقبلية أضيق، إلا أن الديمقراطية كما نعرفها كانت نتيجة لصراعات متأخرة تزامنت مع ظهور الدولة الحديثة. فالدولة الحديثة التي ظهرت خارج أسوار قلاع الحكم فرضت مكونات جديدة للمجتمع تطلبت حقوقاً أكثر وضوحاً، ستكون بالضرورة على حساب الامتيازات غير المبررة التي تتمتع بها الفئات المسيطرة على مخرجات العقد الاجتماعي، وتنازل الأفراد (ليس طوعياً في هذه الحالة) عن إرادتهم لصالح إرادة أكبر وأكثر شمولية. النتيجة أن ثمة حاجة لخلق ترتيبات محددة من أجل تمكين الأفراد / المواطنين الجدد حتى يتمتعوا بحقوقهم ضمن الحد الأدنى. وإن كان نقاد الديمقراطية سيقولون: إنها في النهاية تعني أيضاً حكم الأقلية ولكن وفق القانون.. لكنها أفضل ما نعرف من نظم الحكم حتى الآن.
m.a