باص جان دوست الأخضر .. ينزف وجعاً !
نشر بتاريخ: 2019-05-28 الساعة: 02:21رام الله- الايام- لا يمكن وأنت تنهي رواية "باص أخضر يغادر حلب" للروائي السوري جان دوست، والصادرة حديثاً عن منشورات المتوسط في إيطاليا، إلا وأن تشعر بوخزة في الصدر، وقشعريرة في كافة أنحاء الجسد، وضربات في الرأس لا تفتأ أن تتصاعد ولا تهبط إلا نادراً، مع تقليب صفحات الرواية التي يمكن وصفها بالتسجيلية، وإن ابتعدت عن الصورة النمطية لهذا النوع من الروايات، فبدت وكأن شخوصها من وحي خيال الكاتب كساها لحماً ودماً، طفح منه الكثير على الصفحات، مع أنها، أي الشخصيات، من بنات الحياة.
ينطلق "الباص الأخضر" من حلب محملاً بالمهجرين من أطفال ونساء والمسلحين السابقين، بعد اتفاق في نهاية العام 2016، على نقلهم في هذه "الباصات، إلا أن المسن عبود العجيلي (أبو ليلى)، والذي كني باسم ابنته رغم أن له من الذكور أربعة يكبرونها، لفرط انتظاره ليوم تولد له فيه أنثى.
لم يكن يريد العجيلي أن يغادر المدينة، حتى لو مات تحت أنقاض منزله، لكنه نُقل عنوة إلى "الباص الأخضر"، ونَقل معه حكاياته وأسرته في استحضار لصور فوتوغرافية حملها في حقيبة صغيرة سوداء، علاوة على ثوب زفاف زوجته الذي سكن الحقيبة نفسها، أي كل ما تبقى في المنزل عقب نهبه في ظل حكم المسلحين والمقاتلين.
"لم يبق أمام المقاتلين والمدنيين المتبقين في الأحياء الأخرى من خيار سوى الصعود إلى الحافلات الخضراء التي صارت رمزاً لانتصار قوات الحكومة. وفي اليوم الشتائي ذاك، في منتصف شهر كانون الأول من عام 2016، عثر بعض شباب الجيش الحر على (أبو ليلى) جالساً أمام باب البناية يحدق في السماء باحثاً عن طائرة مفترضة تريد أن تنقض على الحي".
وعبر حكايات الصور التي تنزف ألماً، والعائلة التي تمزقت كما البلاد، تطفو على السطح حكاية لكل واحد من أفراد الأسرة، فليلى تفقد النطق بعد أن ترى بأم عينيها ابنتها ميسون نصفين، بفعل شظية من برميل متفجر، بينما كان زوجها فرهاد الطبيب الجراح قد اختطفت من قبل مسلحي داعش.
أما الابن الأكبر للعجيلي، ويدعى عبد الناصر، فكان جندياً في الجيش العربي السوري، وقتل خلال الحرب الأهلية في لبنان، أثناء مشاركته حركة أمل في الهجوم على مخيم برج البراجنة للاجئين الفلسطينيين، قبل ما يقارب الثلاثين عاماً، في حين أن ابنه عمر انشق عن الجيش السوري والتحق بالجيش الحر في ربيع العام 2012، وانقطعت من بعد ذلك أخباره، وسط تكهنات عدة حول مصيره.
عاصم الذي فر رفقة أسرته إلى تركيا، حيث تركهم متوجهاً إلى أوروبا عبر بحر إيجة، وحط في اليونان بسلام، قبل أن تنقطع أخباره هو أيضاً، بينما شقيقهم علي ابن العجيلي، عازف البزق، فذهب إلى حيث أخواله في كوباني، وهناك استهوته الثورة في بداياتها، لكنه تركها حين ابتعدت عن سلميتها، فحمل البزق خاصته، وهاجر، وانقطعت أخباره كما سابقيه.
وقبل رحلة تخيُّل المصائر، عبر استحضار الغائبين، يرحل بنا دوست من خلال العجيلي (أبو ليلى) ما بين الأزمان، مسترجعاً من الذاكرة أحداثاً لا تنسى على مدار عقود، منها ما هو عائلي، ومنها ما يتعلق بأحوال البلاد، منذ زواجه من نازلي، التي تقضي بقنبلة تستهدف المستشفى الذي كان يستقبلها لإجراء عملية استئصال الزائدة الدودية.
ومما كان بديعاً في الرواية، استحضار الشخوص، ليتحدث كل منهم بصيغة المتكلم، وإن كان غائباً، فيحكي مصيره، فمثلاً عبد الناصر يبوح لوالده بأن الحديث عن مقتله برصاص قناص فلسطيني افتراء لا أكثر، أما عاصم فتحدث عن سر غيابه أثناء انتقاله من اليونان إلى أوروبا.
وفي حديث المصائر هذا، تحدثت الزوجة نازلي عن أوجاعها وكيف سقط جدار المستشفى على رأسها، وأصوات القتلى قبل رحيلهم الأبدي، لافتة إلى أنها هي التي كانت تخشى الموت بانفجار الزائدة ماتت بانفجار المستشفى.
أما الابن عمر فاعترف لأبيه أنه شاهد بأم عينه ما ارتكبته جبهة النصرة بحق المدنيين، وبحق الكثير من أسرى جيش الحكومة من فظائع، هو الذي بات واحداً منهم، قبل أن يتحول إلى منقذ في الدفاع المدني، في حين أن صوت بزق علي بقي يتردد قادماً من آخر "الباص".
زوج ابنته فرهاد الذي استخدمه عناصر "داعش" بداية لمعالجة جراحهم، وتنقل بين مدن عدة ليس فقط لعلاجهم، بل لرتق بكارات مغتصباتهم، كي يبيعوهن في سوق النخاسة على أنهن عذراوات، يحط به المقام في الموصل، هو الذي كسابقيه يكشف مصيره في لعبة المصائر للعجيلي المسن.
دوست في روايته التي صاغها بتسلسل درامي متماسك ولغة لم تتمكن من اغتيالها "قنابل" التوثيق، حاول أن ينحاز إلى "الحقيقة"، إن كان ثمة حقائق في الحرب، فكشف عن جرائم كافة الأطراف المتنازعة، وعرّى كل من ساهم في تفاقم المأساة السورية المتواصلة منذ ثمانية أعوام .. ولو كان ثمة انحياز في الرواية، فهو للبلاد وضحايا الحرب الطاحنة فيها، والتي أكلت ولا تزال الأخضر كما هو لون الباص، واليابس أيضاً كما هو حال أدمغة المتحاربين وضمائرهم.
"في الحرب ما في خيارات كافية قدّام الواحد. ما في حلول وسط، ما فيك تقول أنا ما دخلني، ولا علاقة لي بهذا الطرف ولا بذاك. ولا طرف يقبل منك الحياد. يا أبيض يا أسود، بالحروب ما في رمادي غير بقايا البيوت المحترقة (...)".
وكشف جان دوست لـ"أيام الثقافة" أن جزءاً ثانياً من الرواية أنجز، وصدر قبل أسابيع قليلة عن منشورات المتوسط أيضاً بعنوان "ممر آمن"، وتجري أحداثها في عفرين خلال "الغزو التركي، ونزوح المدنيين، حيث نلتقي بليلى ابنة عبود العجيلي الخرساء، وبابنه العازف علي، أما بطل الرواية الرئيس فهو حفيده كاميران ذو الخمسة عشر عاماً".
وختم: القصص في الروايتين حقيقية، واقتبستها من أحاديث وإفادات لاجئين عديدين التقيتهم خلال عملي مترجماً في مراكز اللجوء بألمانيا.
amm