الرئيسة/  ثقافة

"وأطوف عارياً" لطارق الطيب .. العريّ مدخلاً لتعرية مجتمع العنصرية!

نشر بتاريخ: 2019-05-15 الساعة: 01:54

رام الله- الايام- لم يحضر هتلر في رواية "وأطوف عارياً" للروائي السوداني النمساوي طارق الطيب، والصادرة حديثاً عن دار العين للنشر في القاهرة، لكن شبحه حضر فيما وراء الحكاية، باعتقادي، عبر تقاطع الحبكة المحورية في الرواية مع حكايته، فـ"مينا" هذا المصري القادم إلى النمسا، يتقدم بطلب للانتساب إلى أكاديمية الفنون في فيينا، ويتم رفض طلبه، وهو ما حدث مع هتلر، الذي رفضت الكلية ذاتها اعتماده فناناً، فبات النازي السفّاح، لكن "مينا" لم يكن هتلر العصر الحديث، فلم ينتقم هذا الشاب حنطي البشرة من العالم، رغم أن هواجس الانتقام حضرت ذات مرة عابرة.

وجاء "مينا" من بلاده، دون معرفة سبب هجرته، يحمل لوحات تسع هي ما اختاره من مجموع لوحاته التي رسمها ليقنع بها إدارة الأكاديمية بموهبته، قبل أن ينتهي به المطاف "موديل" يقف عارياً أمام جموع الطلبة في قاعات المحاضرات بالأكاديمية ذاتها، ليقوموا برسمه .. هو الفنان الملم بقواعد الرسم وفلسفتها إلى درجة أن "ماجدالينا" الأستاذة في الأكاديمية كانت تستعين بمصطلحاته، ومعلوماته التي أدهشتها، لتقدمها للطلاب، بينما يبقى هو صامتاً عارياً أمامهم.

وعري "مينا" هنا، يكشف ورقة التوت عن مجتمع عنصري في النمسا، ويعرّيه، على مستوى تعاطيه مع "الغرباء" أو "الأغيار"، وخاصة "ذوي البشرة الداكنة"، وهو ما يعيدنا، ودون حضور لليهود في الرواية، إلى فكرة "العرق الأبيض النقي"، وكأن فيها رصداً لـ"نازية" ما جديدة، وإن لم يقلها، لا بشكل مباشر أو غير مباشر.

و"مينا" هو اسم فرعون مصري قديم من عصر الأسرات المبكرة، واشتهر لكونه "موحّد" القطرين (المملكتين الشمالية والجنوبية)، إلا أن هويته بقيت موضع جدل من حيث النسب .. وفي التباس النسب هذا دلالات قد تنسحب على "مينا"، الفنان العاري في فيينا، حيث يعيش حياة مليئة بالالتباسات، في حين أن معاني الاسم ودلالاته اللغوية قد تعكس حالة تناقض مع واقع "مينا" القرن الحادي والعشرين، فهو يعني بالمصرية القديمة "الثابت الراسخ المكين الدائم الباقي والمؤسس".

وينقلنا الطيب في روايته العميقة ذات التأويلات المتعددة، ما بين عري وتعرية، وما بين صناديق سوداء يستحيل بعضها أبيض أو رمادياً بينما تحافظ أخرى على سوادها، فهناك إشارات إلى حالات عري في الفن، كالحديث عن فيلم أنجلينا جولي وأنطونيو بانديراس "الخطيئة الأصلية" (Original Sin)، أو كرمز على إذلال المحتل للشعب الواقع تحت الاحتلال كما في حادثة تعرية مساجين "أبو غريب" في العراق، فما بين النمسا ومصر نعيش فصول الرواية رفقة "مينا" وشهدة الحبيبة المصرية ونادين الحبيبة النمساوية، حيث يبهرنا الروائي هنا برواية مختلفة عن العري الداخلي والخارجي للعربي في النمسا، أو بمعنى أدق لكل من هو غير نمساوي.

وهذا برز في رصده لحادثة قتل النيجيري ماركوس أوموفوما، أثناء ترحيله من ألمانيا إلى بلغاريا في الطائرة، حيث تم تربيطه وتكميمه، ما أدى إلى اختناقه، وأيضاً قتل شيباني وأجوي، وهذه القصص تعكس كمّ العنصرية ونوعها في النمسا ضد كل من هو أجنبي عامة، أو أسود على وجه الخصوص، حيث إن الروائي الطيب، وعبر شخصية "مانويل" صديق "مينا"، ويومياته في النمسا مع ذوي البشرة البيضاء، يبيّن ذلك بوضوح، حيث كانوا، ولإشعاره بدونيته تجاههم، ليس فقط يعايرونه بلونه، بل ويغلقون أنوفهم كلما مرّ، بادعاء كاذب مفاده أنه كريه الرائحة، هؤلاء الذين كانوا يتداولون كتاب "الزنوج العشرة الصغار" (Zehn kleine Negerlein)، وصدر منه عشر نسخ مختلفة كلها تؤدي إلى هلاك الزنوج العشرة الصغار بقتلهم واحداً تلو الآخر.

"أوهموه أن رائحته كريهة بسبب لونه، حين كان يمر بهم يطبقون على أنوفهم بأصابعهم. في عمر السادسة اكتشفت أمه ذات يوم تسلخات شديدة على كل جلده. احتضنته بذعر ورائحة الصابون تغمر أنفها، ثم بكت حينما أدركت السبب. سرد عليها حكايته في المدرسة، أن أقرانه ضللوه حين أكدوا له أن لون جلده الأبيض يختفي تحت وسخ، لأنه لا يستحم بشكل جيد، فقام بحتّ جلده بليفة خشنة هرأت جلده الغض".

و"مينا" هذا، الذي يبقى صندوقه الأسود مغلقاً مثل كثيرين، كان يسير بعكس عقارب الساعة كما الطواف حول الكعبة، وكأنه يصرّ، ولو دون وعي، على هويته الدينية المغايرة، والتي باتت في هذه الآونة مصدراً للاضطهاد في عديد المجتمعات الأوروبية، حيث تتنامى ظاهرة ما يسمى "الإسلاموفوبيا" .. هو الذي "كان يقف عارياً بعد أن أسقطت الظروف عنه عنوة ورقة التوت التي تستر جسمه، فيقرر أن يسقط كل أوراق التوت عن كل من وما حوله"، وهو ما حدث في سرده كما صاحب الرواية للتفاصيل المتشعبة والمتشابكة داخل صفحات "وأطوف عارياً"، متجولاً بين أزمنة وأمكنة مختلفة، وإن كان العري الذي لم يفارقه بقي يتراوح ما بين حالتي استيعاب ولا استيعاب، يجللها الالتباس جميعها، وهو ما انعكس في النهاية المفتوحة لالتباس الهوية، حيث جواز سفر شقيقه كان في جيب جثمان صديقه الغريق من بين مئات الغرقى في رحلة الموت أملاً في مستقبل أفضل، حيث يبتلعهم البحر أو إن نجوا تبتلعهم العنصرية، ليبقى القارئ متأرجحاً ما بين طبقات العري المركبة، وكأنها دعوة اتخذت شكل رواية مغايرة لا تخلو من فكر وفلسفة عميقين .. دعوة لأن نقف أمام مرايانا الداخلية والخارجية، إن تمكنا من فعل ذلك.

"كل منا يرغب من حين لآخر في استعادة جزء مسّجل داخل صندوقه الأسود، جزء يعزز اشتهاءاته النفسية السرية، أو قد يرغب في محو ما يستحي منه، فيستحيل عليه، إذ إن خفايا الصندوق مثل عقد من خرز لا يمكن فض حبة دون انتثار بقية الحبات، أو مثل عمود شاهق لأسرار من مكعبات صغيرة مرصوصة بعضها فوق بعض بلا لاصق أو ماسك، لا نفلح معها في إقصاء مكعب أو زحزحته دون انهيار العمود". 

amm
Developed by: MONGID | Software House الحقوق محفوظة مفوضية الإعلام والثقافة © 2024