"رجل صغير كبير" .. علامة فارقة في عرض أسترالي ثائر ومتمرد!
نشر بتاريخ: 2019-04-07 الساعة: 09:20رام الله- الايام- فيما يمكن وصفه بالعرض الراقص الممسرح، وتجاوزاً بنوع من أنواع "المسرح الراقص"، استطاع مصمم الرقص شون باركر، الحائز على الجائزة الأسترالية للتصميم، التأكيد على أن ثمة مدرسة مغايرة ومهمة لعروض الرقص المعاصر في أستراليا، عبر العرض الراقص "رجل صغير كبير" (Little Big Man)، وقدمته فرقة باركر بالشراكة مع مؤلف الأغاني وعازف الموسيقى الحيّة البلغاري إيفو ديميشيف، في ثالث أيام مهرجان رام الله للرقص المعاصر، وتنظمه سرية رام الله الأولى، وذلك، مساء أول من أمس، في المسرح البلدي بدار بلدية رام الله.
لجهة الموضوع، يقوم العرض القابل للتأويل المتعدد والمتباين على فكرة "الثورة على الطاغية"، هذا الحاكم قصير القامة صغير الحجم، كثير الذكاء كبير الشأن، هو الذي يتمكن من السيطرة على جميع أطياف الشعب، بقوة الحديد والنار تارة، وبالكوميديا المصطنعة حد السذاجة والسخافة والبلاهة تارة أخرى، في تعبيرات راقصة، ووقف العرض، أو بمعنى أدق إنهاؤه عند مقتل الحاكم، دون التلذذ بأمل جهد "ولي عهده" المفترض بعد قتله أيضاً، وكأنه انتصار الثورة أو قوة المجتمع على الطاغية الفرد أو الفردين هنا، أو ربما، هو أيضاً، ومن زاوية أخرى، الانطلاق نحو الفوضى.
وفي تأويل آخر، يمكن القول إن العرض قام على فكرة "قتل الأب" أو الرغبة في التخلص منه، وهي فكرة تسود في الفنون عامة، والأدب على وجه الخصوص، ولكن الأب في الحالة الأسترالية المحضة يتماهى مع الطاغية، خاصة إذا ما كان الخصم هم من جهة السكان الأصليين، الذين أقام "الأبيض" كيانه السياسي على أنقاض حيواتهم، أو لجهة الأستراليين من أصول غير أوروبية، أو حتى المهاجرين الجدد.
وفي حالة ما إذا كانت إسقاطات التأويل أكثر توسعاً باتجاه الكونية، فإن العرض ثوري بامتياز، وفيه تمرد على من يعتبرون أنفسهم "أشرافاً"، أو أنه فوق البشر بقليل أو كثير.
وانعكس ما سبق في اللباس الذي تحول من بذلات سوداء أرستقراطية الطابع إلى عراة بلا قمصان، فيما تراوحت خلفية المسرح ما بين قاعة احتفالات رسمية، أو باحة قصر لشخصية رفيعة المستوى، وما بين الغابة، التي هي مساحة الصراعات كلها في العرض.
ولجهة الفنيّات، فقد قدم باركر وأعضاء فرقته من الراقصين، وعبر لوحات تطلبت مجهوداً بدنياً وذهنياً كبيرين، لم تخل من حضور مهم للمسرح بدرجة أقل من الرقص، ولكن ليس بكثير، مع توظيف لليسير من الأكروبات الضرورية في بعض الحالات، وهو عرض لم يخل من كوميديا، لم تكن سوداء تماماً، يمكن وصفها بالرمادية، أو الصفراء، كانت صفة تلازم الأب بإيماءاته وقصر قامته وأدائه على المسرح، الأب الفعلي، أو الرمزي، أو ظل الحاكم، أو ربما الحاكم نفسه، وكأنه هنا "يضحك على الشعب"، كما نقول بالدارجة، فهو دون شك ليس مهرّجاً، وإن كان في العالم حكام وطواغيت تبدو أقنعتهم الخارجية، وربما حركاتهم وحتى تصريحاتهم، أشبه بالمهرجين.
كان ثمة نوع من حرية التعبير في الرقص هنا، وهو نقيض الدكتاتورية، انعكس في الانقلاب الحاصل على مستوى الحركة، واللباس، والديكور، والإنارة، وبشكل أساسي في الموسيقى والأغنيات التي قدمها بشكل حي، وكأنه جزء من الحكاية، بل راويها إيفو ديميشيف بنفسه، مظهراً قدرات مبهرة في التحكم بطبقات الصوت مطرباً، وعازفاً، ومؤدياً أيضاً.
وشكلت اللوحات الجماعية في غالبيتها، إن لم تكن كلها، حالة انسجام ليس من السهل تحقيقها، للتعبير عن حالات من الانقسام والانفصام، ولكن الفريق الأسترالي نجح ببراعة في ذلك، فانتزع إعجاب الحاضرين، أثناء العرض، وبعده بتصفيق حاد وطويل، رافقه صفير يعكس إعجاباً كبيراً، ولم يتردد الكثيرون في التعبير عنه، بعرض "رجل صغير كبير" ما بعد انتهائه، في الساحة الخارجية للمسرح.
توبي ديريك، وصامويل بيزلي، وجويل فينتون، وهاريسون هول، وليبي مونيلا، وجوش مو، وروبرت تينينج، وأليكس وارين، قدموا عرضاً أشبه بالسحر .. هو أقرب إلى قطعة من الحلوى قابلة للقسمة على الآلاف، وفيها من المكونات ما يجعلك تضحك، وتبكي، وترغب في الرقص، وتهز رأسك كبندول ذهاباً وإياباً، أو تحرك يدك اليمنى باتجاه اليسرى لتكتمل الصفقة، أو أنك توقفها قبل أن تصل إلى شقيقتها.
"رجل صغير كبير" (Little Big Man)، ليس عرضاً عاديّاً، فهو يشكل علامة فارقة على أكثر من اتجاه، حيث سيترك أثرا في دواخل كل من شاهده، فهو سرعان ما يتحول إلى مونولوج داخلي ما بين السيّد وضده في كل واحد منّا، وما بين السلطوي والثائر في أجسادنا وحتى أفكارنا.
amm