الرئيسة/  ثقافة

دلال المغربي وما قال نزار قباني وإلياس خوري

نشر بتاريخ: 2019-03-11 الساعة: 02:48

رام الله- وفا- بعد ألف سنة سيقرأ الأطفال العرب الحكاية التالية... إنه في اليوم الحادي عشر من شهر آذار 1978 تمكن أحد عشر رجلا وامرأة من تأسيس جمهورية فلسطين داخل أتوبيس... نزار قباني

في التاريخ، تتدخل العواطف أحيانا، ويتغير موقفنا من الأشياء تبعاً لتطور أفكارنا وما نمر به من تجارب في الحياة، لكن هذا يجب أن لا يمنعنا من رؤية الحدث حسب معطيات وتوقيت حدوثه، ودلال المغربي تلك الفتاة الحيفاوية الأصل واللاجئة التي استشهدت برصاصة تحت العين، لها هذا الحق الذي يمليه علينا الواجب، أن نذكرها ونذكّر بها، وإن كانت دلال من الشهداء القلة الذين ظلوا حاضرين في الذاكرة الفلسطينية رغم مرور كل هذا الوقت على استشهادها مع رفاقها في العملية  الشهيرة، وما زال اسم دلال المغربي يطلق على العديد من المؤسسات والفرق الفنية والمدارس والحضانات في فلسطين، وما زالت رمزاً للنضال الفلسطيني.

رأت دلال النور 1958 في مخيم صبرا للاجئين القريب من بيروت، لأم لبنانية وأب فلسطيني من حيفا، تعلمت في مدرسة يعبد الابتدائية، ودرست الإعدادية في مدرسة حيفا وكلتا المدرستين تابعتين للأونوروا في بيروت، التحقت دلال بحركة فتح وهي على مقاعد الدراسة فدخلت عدة دورات عسكرية وتدربت على جميع أنواع الأسلحة وحرب العصابات وعرفت بجرأتها وحماسها.

العملية التي قامت بها دلال كانت بتخطيط من خليل الوزير "أبو جهاد", الذي قرر أن تكون قيادة العملية لامرأة، بسبب قيام فرقة إسرائيلية باغتيال مناضلين فلسطينيين وقيام إيهود باراك بالتخفي في زي امرأة أثناء العملية.

أطلق على العملية اسم "كمال عدوان"، وخطتها تقوم على القيام بإنزال على الشاطئ الفلسطيني والسيطرة على حافلة عسكرية والتوجه إلى تل أبيب لمهاجمة مبنى الكنيست, ورغم أنها كانت عملية فدائية استشهادية إلا أن الشباب تسابقوا للاشتراك فيها وعلى رأسهم دلال، وتم اختيارها رئيسة للمجموعة التي ستنفذ العملية والمكونة من 14 شخصاً إضافة إلى دلال، وعرفت الفرقة التي قادتها دلال المغربي باسم "فرقة دير ياسين".

صباح 11 آذار 1978 نزلت دلال مع فرقتها، على متن سفينة نقل تجارية تقرر أن توصلهم إلى مسافة 18 كيلومتر عن الشاطئ الفلسطيني، ثم استقلت المجموعة زوارق مطاطية توصلهم إلى شاطئ مدينة يافا القريبة من تل أبيب حيث مقر البرلمان الهدف الأول للعملية، غير أن رياح البحر المتوسط كانت قوية في ذلك اليوم فحالت دون وصول الزوارق إلى الشاطئ في الوقت المحدد لها الأمر الذي دفع بالزورقين المطاطيين إلى البقاء في عرض البحر ليلة كاملة تتقاذفها الأمواج، ونتيجة ذلك، قُلب أحد الزوارق فاستشهد اثنان من المجموعة غرقاً قبل أن تصل الزوارق إلى الشاطئ، وصلت الزوارق إلى الشاطئ في منطقة غير مأهولة ونجحت عملية الإنزال، ولم يكتشفها الإسرائيليون حيث لم تكن إسرائيل تتوقع أن تصل الجرأة بالفلسطينيين القيام بإنزال على الشاطئ على هذا النحو.

نجحت دلال وفرقتها في الوصول إلى الشارع العام المتجه نحو تل أبيب، وتجاوزت مع مجموعتها الشاطئ إلى الطريق العام قرب مستعمرة [معجان ميخائيل] حيث تمكنت دلال ومجموعتها من إيقاف حافلة كبيرة بلغ عدد ركابها ثلاثين راكباً وأجبروها على التوجه نحو تل أبيب، في أثناء الطريق استطاعت المجموعة السيطرة على حافلة أخرى ونقل ركابها إلى الحافلة الأولى وتم احتجازهم كرهائن ليصل العدد إلى 68 رهينة.

خاطبتهم دلال: نحن لا نريد قتلكم نحن نحتجزكم فقط كرهائن لنخلص إخواننا المعتقلين في سجون دولتكم المزعومة من براثن الأسر، نحن شعب يطالب بحقه في وطنه الذي سرقتموه ما الذي جاء بكم إلى أرضنا؟ وحين رأت دلال ملامح الاستغراب في وجوه الرهائن سألتهم: هل تفهمون لغتي أم أنكم غرباء عن اللغة والوطن! فتاة يهودية من اليمن تعرف العربية ترجمت ما تقوله دلال للرهائن، لتعلموا جميعاً أن أرض فلسطين عربية وستظل كذلك مهما علت أصواتكم وبنيانكم على أرضها".

أخرجت دلال من حقيبتها علم فلسطين وقبلته بخشوع ثم علقته داخل الحافلة وهي تردد: بلادي بلادي بلادي لك حبي وفؤادي، وعند هذه المرحلة اكتشفت القوات الإسرائيلية العملية نتيجة تأخر الحافلة في الوصول إلى محطاتها في الموعد، فجندت قطعا كبيرة من الجيش وحرس الحدود لمواجهة الفدائيين وسعت لوضع الحواجز في جميع الطرق المؤدية إلى تل أبيب لكن الفدائيين تمكنوا من تجاوز الحاجز الأول ومواجهة عربة من الجنود وقتلهم جميعاً، فوضعت قوات الاحتلال المزيد من الحواجز في الطرق المؤدية إلى تل أبيب، غير أن الفدائيين استطاعوا تجاوز حاجز ثان وثالث حتى أطلوا على مشارف تل أبيب فارتفعت روحهم المعنوية أملا في تحقيق الهدف، لكن قوات الاحتلال صعدت من إمكاناتها العسكرية بمزيد من الحشود، وتمركزت الآليات العسكرية المدرعة قرب نادٍ ريفي اسمه [كانتري كلوب] وأصدر إيهود باراك، قائد وحدة مواجهة العملية وقتها، أوامره بإيقاف الحافلة بأي ثمن.

عملت القوة الإسرائيلية على تعطيل إطارات الحافلة ومواجهتها بمدرعة عسكرية لإجبارها على الوقوف، حاولت المجموعة الفدائية مخاطبة الجيش بهدف التفاوض وأملا في ألا يصاب أحد من الرهائن بأذى، لكن الجيش رفض أن يصغي لصوت الفتاة اليهودية التي حاولت محادثتهم من نافذة الحافلة وأعلن عبر مكبرات الصوت أن لا تفاوض مع جماعة [المخربين] وأن عليهم الاستسلام فقط.

أصدرت دلال أوامرها بالمواجهة، وجرت معركة عنيفة، نجحت فيها المجموعة في اختراق الجيش ومقاتلته بأسلحتها البسيطة. أصيبت دلال واستشهد ستة من المجموعة وبدأ الوضع ينقلب لمصلحة الجيش خاصة وأن ذخيرة المجموعة بدأت في النفاذ. كان الجيش يطلق قذائفه غير مبالٍ بالرهائن، فسقطوا بين قتيل وجريح، وظهر للمجموعة أن الوضع آخذ في التردي خاصة وأن دلال أصيبت إصابة بالغة.

استشهدت دلال المغربي ومعها أحد عشر من الفدائيين بعد أن كبدت جيش الاحتلال 30 قتيلاً و80 جريحا [الرقم أعلنته قوات الاحتلال]، أما الاثنان الآخران فتقول الروايات أن أحدهما نجح في الفرار والآخر وقع أسيراً وهو جريح، فسألوه عن قائد المجموعة فأشار بيده إلى دلال، لم يصدق باراك، فأعاد سؤاله على الجريح مهدداً فكرر الأسير قوله السابق، فاقبل عليها باراك يشدها من شعرها ويركلها بقدمه بعد استشهادها.

أما من شاركوا في تلك العملية فهم: دلال سعيد المغربي [جهاد]، المفوض السياسي للمجموعة، رصاصة فوق عينها اليسرى، محمود علي أبو منيف [أبو هزاع]، قائد المجموعة، أصيب في جبهته واستشهد، الأسير حسين فياض [أبو جريحة] تم اعتقاله بعد العملية وحكم عليه بالمؤبد، أبو الرمز، أشجع أفراد المجموعة، تظاهر بالاستسلام للقوات الإسرائيلية وعندما اقتربوا منه التقط الكلاشينكوف المعلق بكتفه وقتل مجموعة من القوات الإسرائيلية، أصيب بعدها واستشهد، الأسير خالد محمد أبراهيم [أبو صلاح]، أصيب في يده، تم اعتقاله بعد العملية وحكم عليه بالمؤبد، حسين مراد [أسامة] لبناني الأصل، أصغر أفراد المجموعة سناً، أصيب بطلقة في رأسه واستشهد، محمد حسين الشمري [أبو حسن] اليمن، كان يحب فتاه فلسطينية اسمها فاطمة كان سيتزوجها بعد العملية، حتى يحقق أمنيته بأن يصبح الفلسطينيون أخوال أولاده، أصيب أثناء العملية بكسر في قدمه اليمنى ثم أصيب برصاصة أدت إلى استشهاده، خالد عبد الفتاح يوسف [عبد السلام]، غرق قبل أن تصل المجموعة إلى هدفها وذلك بعد أن انقلب الزورق الذي كان يستقله هو ورفاقه فنجا بعضهم وغرق هو وفدائي آخـر واستشهدا، عبد الرؤوف عبد السلام علي [أبو أحمد] مواليد صنعاء، يمني الأصل، غرق بعد أن انقلب الزورق، محمد محمود عبد الرحيم مسامح [فاخر النحال]، فلسطيني من مواليد الكويت، قناص من الدرجة الأولى أصيب في عينه برصاصة قاتلة أدت إلى استشهاده، عامر أحمد عامرية [طارق بن زياد]، لبناني الأصل، استشهد، محمد راجي الشرعان [وائل] مواليد صيدا، دائم الابتسام حتى خلال العملية، أصيب برصاصة في بطنه أدت إلى استشهاده، يحيى محمد سكاف [أبو جلال]، لبناني، أصيب في العملية، شهادات الصليب الأحمر تقول إنه كان محتجزاً في سجون الاستخبارات العسكرية وإسرائيل لم تعترف بوجوده، محمد حسين الشمري [أبو حسن]، اليمن.

 

قال عنها إلياس خوري في صحيفة النهار البيروتية عام 2008:

"امرأة من فلسطين مزيج من أحزان يافا وعطرها المسيج بالحزن، ومأساة اللد ومجزرة جامع دهمش، امرأة خلعت أستار التقاليد وكسرت المحرمات الاجتماعية، ذهبت لحريتها لتلاقي الحرية، لم تذهب دلال المغربي ورفاقها إلى الانتحار أو الموت، بل ذهبت إلى القتال لأنها كانت تصنع الحياة، ألا يقول لكم وجه هذه الفتاة شيئا؟؟ ألا يقول لكم وضوحها الوطني وتحررها وأخلاقها الثورية العالية  الكثير عن واقعكم اليوم؟ ألا تستحق ذاكرة البطولة أن تستعاد وأن تكون علامة مضيئة  وسط هذين الظلام والإظلام في العالم العربي؟"


وقال نزار قباني:

"في باص... أقاموا جمهوريتهم أحد عشر رجلا بقيادة امرأة اسمها دلال المغربي تمكنوا من تأسيس فلسطين بعدما رفض العالم أن يعترف لهم بحق تأسيسها... ركبوا أتوبيسا متجها من حيفا إلى تل أبيب وحولوه إلى عاصمة مؤقتة لدولة فلسطين رفعوا العلم الأبيض والأخضر والأحمر والأسود على مقدمة الأتوبيس وهزجوا وهتفوا كما يفعل تلاميذ المدارس في الرحلات المدرسية وحين طوقتهم القوات الإسرائيلية ولاحقتهم طائرات الهليوكوبتر وأرادت أن تستولي بقوة السلاح على الأتوبيس العاصمة فجروه وانفجروا معه ولأول مرة في تاريخ الثورات يصبح باص من باصات النقل المشترك جمهورية مستقلة كاملة السيادة لمدة 4  ساعات، إنه لا يهم أبدا كم دامت هذه الجمهورية الفلسطينية المهم أنها تأسست وكانت أول رئيسة جمهورية لها اسمها دلال المغربي.

 

هذه أول مرة تصبح فيها امرأة عندنا رئيسة للجمهورية. البطولة لا جنس لها فليفهم الرجال العرب إنهم لا يحتكرون مجد الحياة ولا مجد الموت وإن المرأة يمكن أن تعشق أنبل بكثير مما يعشقون وتموت أروع بكثير مما يموتون وحين قررت دلال المغربي أن تمارس أمومتها الحقيقية ذهبت إلى فلسطين مثلما فعلت مريم بنت عمران وهناك على الأرض الطيبة أنبتت القمح والزيتون والأنبياء أسندت ظهرها إلى جذع نخلة (فتساقطت عليها رطبا جنيا) فأكلت وشربت وقرّت عيناً وحلمت بأن عصافير الجليل الأعلى تحط على كتفيها وتناديها [يا أمي] غير أن الجنود الإسرائيليين أطلقوا النار عليها وهي في لحظات المخاض وانصرفوا بعدما تصوروا أنها لن تلد ولكن دلال المغربي ولدت أولادا سيرجعون بعد خمسة عشر عام بعد خمسمائة عام بعد خمسة آلاف عام ليزوروا قبر أمهم التي تناثر عليها أزهار البرتقال، أحد عشر رجلا وامرأة كانوا يتمشون كفصيلة من شقائق النعمان على ذاكرة الورد ماتوا جميعاً ولكن دمهم تحول إلى لغة جديدة، هربوا من اللغة العربية القديمة واخترعوا لغة خاصة بهم هربوا من اللغة التي لا تفعل شيئا إلى اللغة التي تفعل كل شيء، هربوا من علم الكلام ودلائل الخيرات والتعلقات وكليلة ودمنة وصبح الأعشى ومروج الذهب من لغة في طور الولادة من مفردات الرماد إلى مفردات الجبر فاللغة العربية كما يتكلم السياسيون من المحيط إلى الخليج صارت متقاعدة لا تقول شيئا ولا تعني شيئا ولا تنقل حرارة ولا رطوبة ولا تتعاطى أي عمل، أحد عشر رجلا وامرأة في لحظة من لحظات التجلي والصدق مع النفس قرروا أن يكسروا كل المفردات الجبانة والكسيحة في اللغة العربية ابتداء من السين وسوف إلى ليت ولعل وعسى وبقية أفراد فرقة حسب الله.

أحد عشر رجلا وامرأة قرفوا من مفردات الإسفنج والبلاستيك في المعجم السياسي العربي فقرروا أن يقتحموا القاموس ويقتلوا المفعول به.

أحد عشر رجلا وامرأة كانوا أكبر منا جميعا أكبر من العرب العاربة والمستعربة وأكبر من اليمين واليسار وأكبر من الأيديولوجيين والمنظرين والفلاسفة والمناضلين على علب المالبورو الفارغة وأكبر من كل المراوغين والمذبذبين والبهلوانات... أحد عشر رجلا وامرأة قطعوا شعرة معاوية التي كانت تخنقنا وكسروا كل الزجاجات التي كان يخزن بها سيدنا أيوب حبوب الصبر ومزقوا كل برقيات التهنئة التي يتبادلها كل الحكام العرب بمناسبة أعياد ميلادهم وزوجاتهم وختان أولادهم وطلوع أسنان حفيداتهم ( لما فيه خير الأمة العربية، اشتاقوا إلى وطنهم ولم يعطهم أحد مفاتيحهم فصنعوا من جراحهم مفاتيح ذهبية ودخلوه. هل رأيتم رأس دلال المغربي وشعرها المتناثر على تراب الوطن؟. هل تعرفون كيف يعود النهر إلى منبعه والشجرة إلى جذورها وموسيقى القصيدة إلى القصيدة؟ هل رأيتم ابتسامتها التي تشبه ابتسامة الأطفال عندما يفتحون علب الهدايا، الهدية التي تلقتها دلال المغربي كانت فلسطين ومن شدة الفرح احتضنتها وماتت.

بعد ألف سنة سيقرأ الأطفال العرب الحكاية التالية... إنه في اليوم الحادي عشر من شهر آذار 1978 تمكن أحد عشر رجلا وامرأة من تأسيس جمهورية فلسطين في داخل أتوبيس ودامت جمهوريتهم 4 ساعات لا يهم كم دامت هذه الجمهورية... المهم أنها تأسست. إن دلال أقامت الجمهورية الفلسطينية ورفعت العلم الفلسطيني ليس المهم كم عمر هذه الجمهورية المهم أن العلم الفلسطيني ارتفع في عمق الأرض المحتلة".

كان جثمان دلال على قائمة الجثامين التي طالب بها حزب الله اللبناني في إطار صفقة لتبادل الأسرى، ولكن فحوص الحمض النووي أظهرت عدم إعادة الجثمان وأن الجثث المعادة هي لأربعة شهداء مجهولي الهوية، ولا يزال جثمانها غير معروف المكان حتى اليوم.

 

amm
Developed by: MONGID | Software House الحقوق محفوظة مفوضية الإعلام والثقافة © 2024