الرئيسة/  ثقافة

صبحي شحروري .. ورحل الناقد الموسوعي الفلسطيني

نشر بتاريخ: 2019-02-12 الساعة: 10:12

رام الله- الايام- يوسف الشايب-  كان قال لي صبحي شحروري، الناقد والأديب الراحل عن عالمنا، مساء أول من أمس، ذات لقاء إنه بدأ كتابة القصة القصيرة في العام 1955، وكان وقتها يعيش في مدينة معان، أي في عمر العشرين تقريباً أو يزيد قليلاً، ونشر في جريدة "الجهاد" وكانت تصدر في القدس، ومن ثم نشر في أكثر من مجلة لبنانية أبرزها "الآداب".

وكان المعجب بالشاعر إيليوت عبّر عن رغبة لطالما تملكته بأن يكون "كاتباً سردياً"، ولذلك بدأ بالقصة القصيرة، لافتاً إلى أنه كتب قرابة الثلاثين قصة قصيرة نشر منها في كتاب تسع قصص فقط، ومنها ما نشر في مجلة "الأفق الجديد" وما قبلها وما بعدها، هو الذي وصف "الأفق الجديد" بـ"مجلتنا"، وتحدث عن دورها الريادي ما بين عام صدورها في العام 1961 وتوقفها عن الصدور في العام 1966، لافتاً إلى أنه في ما بعد احتلال العام 1967 تحوّل إلى كتابة النقد، دون أن يتوقف عن كتاباته الإبداعية، وخاصة في القصة القصيرة وحتى الرواية.

ووصف شحروري وقتها القصة القصيرة بالفن السردي الصعب، قبل أن يصبّ جام غضبه على من وصفهم بمخربي القصة القصيرة ممن اتجهوا نحو القصة القصيرة جداً، التي وصفها بـ"الحكي الفاضي".

هموم الحركة الثقافية
ومنذ حمل القلم قبل ما يزيد على خمسة وستين عاماً، وهو معني بهموم حركتنا الثقافية، متفاعل معها ومع ما تطرحه من نتاجات ثقافية مختلفة. لذلك لم يكتف بالاهتمام بالقصة القصيرة التي كتبها منذ مطلع شبابه وظل يكتبها حتى وقت متأخر، بل إنه كرس جزءاً غير يسير من اهتمامه لكتابة النقد الأدبي، نقد الشعر والقصة والرواية، وأعطى في ذلك نتاجاً متميزاً، بسبب قدرته على تذوق النصوص الأدبية والتعاطي معها من دون مجاملة أو اعتبارات شخصية، وبسبب الحرص على متابعة أحدث النظريات النقدية واستيعابها والاستفادة منها في النظر إلى نتاجاتنا الثقافية المحلية.

لذلك، يصح القول إن الدور الذي نذر صبحي شحروري نفسه لأدائه في قلب حركتنا الثقافية، لم يكن دوراً من قبيل التمني أو الرغبة التي لا تجد تجلياتها في الواقع.

يضاف إلى ذلك، المشاركة الفعلية المثابرة في الكثير من الندوات والمؤتمرات والفعاليات الثقافية التي تشهدها بلادنا بشكل غير منقطع، وكذلك الاهتمام الجدي بدعم التجمعات الثقافية في رام الله وغيرها، والتواصل معها وتحويلها إلى بؤر لتوليد الأفكار الجديدة وصقل المواقف والاجتهادات الثقافية المتنوعة، والتحرك الذي لا ينقطع في اتجاه التواصل مع العمل الأكاديمي والأنشطة الثقافية التي تضطلع بها جامعاتنا، وإقامة أفضل الروابط مع الأدباء والمثقفين الفلسطينيين ما وراء الخط الأخضر، وواظب على ذلك حتى أيامه الأخيرة.


ناقد شجاع
وقال الناقد والكاتب د. نبيه القاسم: معرفتي بالصديق صبحي شحروري تعود إلى سنوات الستين المتأخرة من القرن الماضي عندما كنت أقرأ بعض ابداعاته القصصية في الصحف التي تصلنا من الأردن، وفي السبعينيات بدأت أتابع كتاباته مع العديد من مبدعي شعبنا في الصحف الصادرة في الضفة الغربية وخاصة مجلة "البيادر الأدبي" التي كانت علاقتي قوية مع محرريها وأساهم في مختلف النشاطات الثقافية التي تدعو إليها. كان شحروري أحد الوجوه الأدبية البارزة في الأراضي المحتلة، وكان لآرائه النقدية التي يكتبها أثرها على الحركة الثقافية، ولكنه كان المبدع الواثق من نفسه غير الفارض نفسه على غيره، وقد يكون لإقامته في مدينة طولكرم البعيدة عن مركز العمل الثقافي في مدينتي رام الله والقدس السبب في تأخر معرفتي الشخصية المبكرة به.

وتوثقت العلاقة، والحديث للقاسم، واستمر الطريق وظلت القضايا الواحدةُ والهمومُ الواحدة والإبداعُ الحقيقي ما يشدّ واحدَنا للثاني، وكل لقاء ثقافي يجمعنا، وكل دراسة أو قصة أو مقالة أقرأها لصبحي تزيدني احتراماً له وتقديراً لعُمق فكره وقوّة مَنطقه التحليلي وشجاعته في قول الرأي الذي يراه.

قامة كبيرة 

وولد صبحي شحروري في قرية بلعا، قضاء طولكرم، العام 1934، أنهى دراسته الابتدائية في قريته، وبعد حصوله على الثانوية دخل الجامعة فتخرج حاملاً للإجازة في الفلسفة، وكتب بداية القصة القصيرة ومن ثم النقد والدراسات والرواية، ونشر مقالاته في جريدة الجهاد وبعض الصحف اللبنانية، ومجلة الأفق الجديد.

ومن مؤلفاته المطبوعة: المعطف القديم (قصص) القدس عن منشورات البيادر 1968، والداخل والخارج (قصص، القصة القصيرة في الأرض المحتلة (بالاشتراك مع حنان شعراوي)، الأستاذ والسكين (رواية)، وقصة موت الراعي حمدان (رواية)، وفق ما ذكر في "موسوعة أعلام فلسطين في القرن العشرين".

وقال وزير الثقافة د. إيهاب بسيسو: إن رحيل قامة أدبية كقامة صبحي شحروري يشكل خسارة حقيقية للثقافة الفلسطينية، حيث ساهمت إبداعات المبدع الكبير كناقد وكاتب وقاص في نحت ملامح الهوية الثقافية الفلسطينية خلال النصف الثاني من القرن العشرين. لقد شكل صبحي شحروري منظومة متكاملة من الإبداع والأخلاق والانتماء، ما أهلّه لأن يكون في مقدمة الأسماء التي كتبت عن فلسطين وساهمت في حفر اسم الوطن في سجل الإبداع الإنساني .. لذا نقولها بكل تقدير: كنا ومازلنا وسنبقى ننظر لهذا المبدع الكبير كأستاذ ومرجع نشير إليه بالفخر والاعتزاز. يرحل أستاذنا القدير صبحي شحروري تاركاً لنا سيرة ثرية بمعاني الأخلاق والإبداع القادرة على أن تكون مصدراً مهماً من مصادر الإلهام للأجيال الفلسطينية القادمة.


نشاط إبداعي وفاعلية نقدية
وتميز صبحي شحروري على الجمع بين النشاط الإبداعي والفاعلية النقدية، وإقامة الصلات اليومية مع الآخرين، والتهليل لكل إبداع حقيقي وتحفيز حركة الثقافة الصاعدة، ما كان له أن يضطلع به ويحقق النجاح فيه، لو لم يكن حائزاً على الصفات الأصيلة التي تميزه وتجعله محبوباً من أقرانه ومن أصدقائه وتلاميذه ومريديه، كما تميز صبحي شحروري بالتواضع الجم، وبالبساطة التي تجعله قريباً من الناس، وهو أبعد ما يكون عن التعالي، وعن التباهي بحصيلته الثقافية الواسعة، وهو أبعد ما يكون كذلك عن توظيفها للمساومة أو لإحراز مكاسب شخصية أو مصلحية.

صبحي شحروري زاهد في متع الحياة وفي بهرج المكاسب المادية، وكذلك في الوظائف العامة والامتيازات الشخصية. إنه المثقف الساعي إلى الحقيقة، وهو مسلح بالصفاء وبالتجرد والنبل. إنه الرجل الذي ما زال ينظر إلى القيم باعتبارها علامة على سعي البشر إلى ما هو أبهى وأجمل، وليس مجرد صيغ يتشدق بها من يعمل على الضد منها في أية لحظة أو أية مناسبة مواتية. لذلك، يصح القول: إن صبحي شحروري ينتمي إلى جيل راسخ في معتقداته وقناعاته، وهو لا يمكن أن يخذل في أية لحظة من أولاه ثقته، وأحله في موقع الصدارة من اهتمامه، لأنه بنى كل تجربته في الحياة على الصدق المؤسس على احترام الحياة واحترام الآخرين الذين يستحقون الاحترام. من هنا تصبح صداقة صبحي شحروري مكسباً يعتز به أصدقاؤه وكل من عايشوه وعرفوه.


مثقف مثابر
وأكد د. نبيه القاسم: استطاع شحروري ونتيجة لمُثابرته وسَعة اطلاعه وإغناء ثقافته ومَعرفته بكلّ جديد تَعرفُه السّاحاتُ الأدبية أن يكون الصوت النقدي العالي والقوي والشجاع في ساحة الإبداع الفلسطينية. فكانت دراساته النقدية ومتابعاته والندوات والحلقات الثقافية التي يشارك فيها محور اهتمام المثقفين ومجال مناقشاتهم ومحاوراتهم. قال رأيَه وكَتَبه في بعض رموز الإبداع في الشعر والقصة والرواية والمسرح والنقد، لم يعرف المجاملةَ ولم يخشَ غضبةً.

وختم: ما يُميّز صبحي شحروري في دراساته النقدية للأعمال الإبداعية التي يتناولها أنّه لا يتناول النّص لرغبة في الكتابة وإنما يختار المميّز، ولا يلصق نصّه بنظرية نقدية قسراً ليتفاخر بالمنهجيّة كما يفعل كثيرون، وإنما يمازج بينهما ويُقرّب الواحد من الثاني، فلا يُكثر من أقوال المُنظرين ولا يُطيل دراسته باقتباسات واستتشهادات لا حاجة لها، وإنما تجده خلال تناوله للنص يقدّم التحليل العميق والشامل المرتكز على نظريات منهجية، وليس نظرية واحدة، يعرف كيف يُزاوج بينها وكيف يتغلغل في النص المختار، فتكون الدراسة المميّزة ويكون النقد الذي يجب أن يكون. وما دراسته المطوّلة لجدارية محمود درويش التي نشرها في أعداد مجلة "الشعراء" الصادرة في رام الله إلاّ النموذج لهذا النقد الذي يكتبه صبحي شحروري.


بعيداً عن الشعاراتية
وفي ذات الحديث معه، أشار شحروري إلى أنه كتب في عديد المواضيع، مسلطاً الضوء على قضايا وطنية، ولكن بعيداً عن الشعاراتية، بل عبر تناول عميق للشخصية الفلسطينية، وإيصال ماهية الفلسطيني عبر القصة القصيرة، ومن ثم عبر النقد الأدبي، مطالباً الجيل الجديد من الكتّاب بالتروّي وعدم استعجال الشهرة في ليلة وضحاها، والتسلح بالقراءة والمعمّقة والرصينة، و"إذا كان لا يملك الموهبة فليتنحَّ جانباً"، فالكثير من الكتّاب أو من يصفون انفسهم بذلك لا يملكون ما يؤهلهم لوصف انفسهم بالكتّاب او الشعراء حيث يفتقدون للموهبة أساساً. 

amm
Developed by: MONGID | Software House الحقوق محفوظة مفوضية الإعلام والثقافة © 2024