الرئيسة/  ثقافة

"الوصايا" لعادل عصمت .. رحلة تأملية في مسيرة عائلة وبلد!

نشر بتاريخ: 2019-01-22 الساعة: 10:20

رام الله- الايام- "السديم" كلمة مفتاحية في رواية "الوصايا"، جديد الروائي المصري عادل عصمت، والصادرة مؤخراً عن "الكتب خان" للنشر والتوزيع في القاهرة، وهي التي ترشحت إلى القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر)، حديثاً.

والسديم لغة كلمة تجمع في معانيها ما بين الهمّ والندم والغيظ والحزن والتعب والضبابية، وفي الرواية، كما ورد على لسان الشيخ عبد الرحمن، الشخصية المحورية تتقارب المعاني حد الالتصاق أحياناً، فـ"السديم هو الضباب الخفيف، سحابة من التراب أو الغاز، وفي علم الفلك نجوم بعيدة تظهر كأنها سحابة خفيفة، أو بقع ضعيفة النور، وفي (المختار) السديم هو التعب والحزن، ورجل سادم نادم ... نحن مجرد سديم يتجمع ثم يتبدد".

وفي موقع آخر من "الوصايا" يرد على لسان الشيخ نفسه "في نهاية الرحلة تبدو حياتي مثل السديم. ضباب معتم غير متشكل، ضباب خفيف بلا ملامح تظهر فيه آثار حياة، بقع خافتة من الضوء (...)".

في يوم "الأربعاء 20 ديسمبر 1978"، يستدعى الجد عبد الرحمن حفيده "الساقط"، ويخبره بأنه سيغادر الحياة يوم الجمعة، وأن كل ما تبقى له في هذا الكون ليس إلا يوماً واحداً، ولذلك يطلب من الحفيد أن ينقش عشر كلمات في قلبه، وهي الوصايا العشر التي يسرد عبرها الراوي سيرة عائلة بأكملها ما بين صعود وهبوط، وكأنها تختصر سيرة بلد، وهي التي بتكاملها تشكل الرواية، فكل وصية عنوان لفصل: "خلاصك في مشقتك"، و"إياك والعمى"، و"المتعة عابرة كالحياة"، و"كن يقظاً وقت الأفراح"، و"الثروة مثل الدابة عليكَ أن تسوقها"، و"احذر أن تقتل أخاك"، و"الأحزان سموم القلب"، و"تحمّل الألم"، و"المحبة دواء أيام الباطل"، وآخرها "أعظم الفضائل في التخلي".

وباستخدام تقنية "الاستعادة"، يسرد الجد المولود في العام 1908، في أربع وعشرين ساعة، حكايات تمتد منذ وعيه الأول وحتى ما قبيل وفاته، مزاوجاً ما بين سيرته الذاتية ومسيرة عائلته وما بين أحداث تاريخية واجتماعية وتطور تقني انعكس بشكل واضح على صيرورة من يعتمدون الزراعة أساساً لحيواتهم.


يتحدث الجد المهموم والنادم والحزين عن ماضٍ قد يكون له عديد التأويلات في حاضرنا المعاصر، في رحلة بناء وهدم تتواصل بفعل عوامل الزمن والتحولات المرافقة له، وهو ما اختصره عبر حكاية خسارته لأرض أهلي في ثلاثينيات القرن الماضي، بعد أن وقع في فخ الإقطاعي "الخواجا ندرة"، وموت شقيقه نعيم لاحقاً، معرجاً إلى عام الخسارات في العام 1967، حيث اختلطت "النكسة" العربية عامة، بانتكاسات عائلية .. "في بداية العام 1967 مات علي سليم. ظلت الدار فترة لا يسمع فيها غير صوت اجترار البهائم، وصوت عصافير في قاع التبن، وتمتمات بعيدة مجهولة المصدر. أما أصوات البشر فكانت حشرجة. الصمت استقر كفضاء لحركتهم وأعمالهم. عندما ينطق أحدهم يشعر بصوته غليظ النبرة، خشناً، يرتد مباشرة داخل الفم. نوع من الشرود يسري في الجو، وعدم تصديق تقشعر له الأبدان. الوجوه جهمة، الجلابيب تخفق في أثناء السير. لو أطلّ المرء إلى أعماقهم، فسيرى أعشاب الأمنيات تذبل، والأحجار الصلبة لرغبة الحياة راقدة تتململ في الطين، والذكريات تهيم مثل حشرات تطير في فراغ، والآلام غائرة على شكل أخاديد، ويغطي كل هذا لون المساء"، دون أن يغفل الخسارات الكبيرة إثر الهزيمة، و"دود القطن" وما خلفه من خسائر كبيرة، وسط تساؤلات عن مصير البلد إذا ما كان "أصابتها اللعنة"، فـ"رائحة القطن المصاب بالدود تهل على البلد عطنة"، ودون أن يغفل تلميحات بفساد ما أو أحاديث عنه، وهو العام نفسه الذي استدعي فيه ابنه نعيم، ويحمل اسم شقيقه المتوفى، إلى الجيش، وكأنها الكارثة فعلاً.

ويواصل الشيخ حكاياته التي تتراقص بالقارئ على حبال الزمن، وتفتح المجال رحباً أمامه للمزيد من التأويل، قبل أن يصل إلى مرحلة البوح، التي قال عنها الحفيد "الساقط" ذات صفحة في مطلع الرواية: "ما زلت غير مصدق أنه تحدث معي، ببساطة، عن حبّه للست كوثر زوجة صاحبه نور الدين، وكيف أنها سيدة كاملة. في تلك اللحظة صدقت كلامهم. لم يكن الشخص نفسه. أبدله المرض وحوّله إلى شخص آخر (...) لم أعرف شيئاً عن قلب جدّي إلا في ذلك اليوم العصيب، ما عرفته قبل ذلك كان الصور الذهنية التي تسللت إليّ من مناخ دارنا وحكايتها. الآن أقترب من الخمسين من عمري وعشت حياتي بعيداً عن تعاليمه ووصاياه، لكن يوم الأربعاء 20 ديسمبر 1987 ما زال يعيش معي، لا أتمكن من التخلص منه، أو فهم لغزه".

باب التأويل
ومع فتح باب التأويل لتفاصيل جاءت في الرواية، ومحاولة البحث عن إسقاطات على ماضٍ قريب بمراراته الكثيرة وحلوه النادر، أو واقع معيش يلبس ثوباً يبدو بالياً، أو مستقبل ترتعد فرائصه، لا يمكن تجاهل العام 1970، وهو العام الذي توفي فيه الرئيس المصري السابق جمال عبد الناصر، والذي يبدو مفصلياً هنا، حيث الإشارة إلى هدم البيت قد تفسر على أن البلد لم تعد هي، وأن خراباً ما قادم لا محالة .. " هذه أصعب لحظات دار سليم. أهل الدار متناثرون في بيوت الأهل والجيران. يجرّبون لأول مرة حسّ الغريب. السقف كان يمنحهم ألفة ضرورية لكي يزاولوا حياتهم، وبدون تلك الألفة التي تشبه التنفس في أهميتها وخفائها، يعيش المرء متوتراً كأنه يمشي عارياً"، رغم قناعة الشيخ الجد بأن "الحياة لا بد أن تجدد نفسها"، وكأنه يحيلنا هنا إلى مرحلة حكم السادات، الذي اغتيل قبل قرابة ثلاثة أشهر من "الأربعاء" مفتتح الرواية.

في حين أن الحديث عن تسليم إدارة أموال العائلة وحسابات الأرض إلى ابنه نعيم، بعد أن أنهى الخدمة العسكرية والتعليم، منتزعاً هذه "السلطة" من نبيّة، زوجه ابن شقيقه الفقيد علي سليم، قد يحلينا إلى تأويل سياسي يتعلق بمرحلة ما في السنوات الأخيرة من حكم مبارك، واتساع سطوة ابنه جمال، وإلى تأويل آخر يتعلق بجدلية الذكاء الفطري والتعليم، والذكورة والأنوثة، مع أن حضور المرأة لم يكن هامشياً على الإطلاق في وصايا عادل عصمت (...) والتأويلات كثيرة.

وتميزت الرواية على مستوى السرد واللغة وتسلسل الأحداث بصنعة الماهر، المدرك جيداً ما يفعل، فعادل عصمت كان مهندساً هنا وليس روائياً فحسب، خاصة في رسمه لشخوص الرواية، لدرجة شعرت معها أنني أعيش في دار سليم، وأشارك العائلة الممتدة يومياتها، في البيت القديم الذي كان يجمعهم، وفي البيت الجديد الذي جعل لكل منهم مساره بعيداً بدرجة أو بأخرى عن الآخرين، وكأنني أمام شخصيات مسلسل درامي شيّق، ما إن تنتهي حلقته الأولى حتى تنتظر التالية بفارغ الصبر، بل وتشعر بالحزن مع المشهد الختامي، لأنك فقدت أناساً عشت معهم لأيام هي مدّة قراءة "الوصايا"، التي يطول الحديث عن تفاصيلها، وما تحمله من روعة في البناء على مختلف المستويات، ومن عمق لعل صاحبها أراده، في كثير من الأحيان، ضبابياً كما "السديم".

زاوية مختلفة
وقال الروائي عادل عصمت لـ"أيام الثقافة": بدأت الكتابة أثناء الجامعة، وكنت أكتب قصصاً عن بلدتي، لكني كنت أرى فيها أثر من كتبوا عن الريف من عبد الرحمن الشرقاوي، وادريس، وعبد الحكيم قاسم .. كنت أطمح أن أكتب من زاوية خاصة بعيداً عن الصراع الاجتماعي أو العادات والتقاليد .. كنت أريد أن أتأمل الجو والمناخ والمزاج العام، والحسّ الذي يتركه البشر أثناء حياتهم، معاناتهم وأحلامهم، وجهودهم في بناء الحياة وهدمها في نفس الوقت.

وأضاف: في العام 2002 كتبت كتاباً صغيراً لمجلة "أمكنة" بعنوان "قرية منسية"، تراوح ما بين السرد والحكايات، وكان محاولة لإنشاء الانطباع عن القرية اتخذت مداخل مختلفة عن المداخل المعتادة للكتابة عن الريف مثل الصراع الاجتماعي والفقر وغيرها من الموضوعات الشائعة .. اتخذت زوايا مثل النور والظلام والأماكن الفارغة والأماكن الممتلئة وسيرة الأرض من ناحية التملك، هذه الكتابة عن المحيط العام بدت في ذلك الوقت كأنها دراسة للمناخ الذي علي أن أنشئ فيه القصة التي طالما حلمت بكتابتها .. تشجعت، وبدأت، وكتبت وقتها مخطوطا طويلاً، لكنه فشل في اصطياد الخبرة .. وتقريباً من كتابة هذه القصة التي كنت أريد أن تحمل المذاق لما حدث أكثر من كونها وصفاً لما حدث، لم أكن أريد أن تكون مجرد سرد لتاريخ عائلة بل تأملا في تاريخ عائلة.

وختم: الرواية عبارة عن تأمل في الزمن وطريقته في الهدم والبناء .. تلاحظين كم أصبح الشيخ غريباً في النهاية، ليس فحسب بسبب مشاكل الأسرة، بل بسبب الطائرات التي أصبحت ترش "الغيطان"، و"الكاسيت"، وغيرها من الأحوال والأوضاع التي عزلته عن محيطة، وكأن عالمه يتوارى، ويجب عليه أن يتوارى هو أيضاً. 

amm
Developed by: MONGID | Software House الحقوق محفوظة مفوضية الإعلام والثقافة © 2024