"غاسل صحون يقرأ شوبنهاور" لمحمد جبعيتي.. رواية المهمّشين والعادّيين والفقراء!
نشر بتاريخ: 2019-01-08 الساعة: 08:17رام الله- الايام- يشكّل "الإهداء" في رواية الفلسطيني محمد جبعيتي الجديدة "غاسل صحون يقرأ شوبنهاور"، الصادرة حديثاً عن دار الآداب في بيروت، مدخلاً لتحليل الرواية بأكملها.. "إلى الوحيدين في هذا العالم، الذين لا يعنيهم الفرح.. إلى العمّال الذين ليس لديهم الوقت لإراحة أجسادهم، والنظر إلى وجوههم في المرآة.. إلى المهمّشين والآباء العاطلين عن العمل، والأمهات الهزيلات من الشقاء، والمتخرّجين حديثاً من الجامعات.. إلى الذين ليس لديهم صفحات على "فيسبوك"؛ لأن حياتهم ملتصقة بتراب الواقع.. إلى كل امرأة تعتقد أنها ليست جميلة، وإلى كل رجل ليس لديه عضلات مفتولة.. إلى الذين يخافون العتمة.. إلى الذين يكتبون عن الفودكا، ولا يملكون ثمنها.. إلى العاديّين جداً".
في النصف الأول من الرواية، يبدو جبعيتي وكأنه يكتب سيرة ذاتية، عبر تنقل "نوح" الشخصية المحورية هنا، ما بين حكايات المحيطين فيه: والدته، ووالده، وشقيقاته، وزملائه في جامعة بيرزيت، أو في المطعم الجديد أو زملاء الشقاء في سوبر ماركت الطيرة، أو في ورش البناء، والفتيات اللواتي رافقنه منذ كان طالباً مدرسياً، إن جاز التعبير، أو طالباً جامعياً، مسلطاً الضوء على رام الله كجغرافيا أساسية للأحداث المتناثرة، وبيرزيت كموقع مساند لهذه الأحداث، مع حضور أقل بكثير لمدينتي بيت لحم ونابلس، في مراوحة مكانية تذهب وتجيء بالقارئ لا على الترتيب الزماني.
في هذا الجزء، يتحدث "نوح" عن مسقط رأسه، وطفولته في شوارع قريته البسيطة قضاء نابلس، ومراهقته، وأول فتاة أحبها، والفتاة التي انتحرت بسببه، وبيت العائلة، وحكاياته مع شقيقاته البنات، ودروس حفظ القرآن، واستيلاء عناصر من حركة "حماس" على مسجد القرية، وحكايات معلم الدين وإمام الجامع في القرية المتحرش بالأطفال.
ومن خلال الحديث عن والدته التي لا يفارق الحجاب رأسها، حتى داخل المنزل، وشقيقته شذى المتمردة على الحجاب أولاً، ثم المتمسكة والداعية له في وقت لاحق، يتناول بجرأة ما يمكن وصفه بـ"التدين الاجتماعي"، وهي ذات الجرأة التي تحدث فيها عن الشيخ معاوية وأمثاله ممن يتسترون بالدين.
ويعكس جبعيتي في طريقته لتناول المواضيع، حالة التيه التي ترافق "نوح"، فهو في الرواية التي تخلو من حدث محوري، وحبكة واضحة المعالم، تقفز من محور إلى آخر، ومن قضية إلى ثانية فثالثة دون رابط أو مظلة جامعة، فبعد الحديث عن الحجاب و"رجال الدين"، انتقل للحديث عن التوسع الاستيطاني، واعتداءات المستوطنين المستمرة، قبل أن يعود إلى حكاياته في الجامعة، وعلاقته بإسراء ورهف ودينا التي تتحول مع مرور الصفحات إلى شخصية محورية ترافق "نوح" حتى الصفحة الأخيرة للرواية.
ويمكن القول: إن النصف الثاني من الرواية يتمحور حول حكاية أساسية قوامها علاقة "نوح" و"دينا"، اللذين توحدهما حالة من التوهان والهروب، ويدعم كل منهما الآخر بطريقته، معرجاً إلى حكايات أخرى ذات طابع فنتازي كـ"جيل بيرزيت"، و"صخرة حديقة الاستقلال"، و"حكاية موت الغربان"، وغيرها.. وهنا يمكن القول: إن الرواية ليست فنتازية بالكامل بل تحوي جرعات من الفنتازيا.
ولم تخل الرواية من إسقاطات سياسية واضحة في أكثر من موضع، أدلل عليها بعبارة، على سبيل المثال لا الحصر.. "الأنظمة العربية لا تريد إنساناً واحداً، بل ملايين الحيوانات في حظائرها"، وهي الرواية التي تميزت أيضاً بالخروج على التابوهات إلى حد ما، بلغة سلسلة ومثقفة في آن، مستعرضاً تلك الثقافة التي كان يتمتع بها "نوح"، وقراءاته المتعددة التي قد تفضي إلى الخروج، ذات يوم، بباكورة أعماله الروائية.
ورغم غياب شوبنهاور عن الرواية وأحداثها التي تبدو كشوارع فرعية غير معبّدة في كثير من الأحيان كحيوات العابرين عليها مشياً على الأقدام أو داخل مركبات فارهة أو بالكاد قادرة على المسير، ورغم ظهوره في العنوان ليس إلا، لكن اختياره هنا دون غيره يبدو مبرراً، فالفيلسوف الألماني معروف بفلسفته التشاؤمية، وبأن ما يراه في الحياة ما هو إلا شر مطلق، خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن العنوان هو العتبة الأولى للنص.
واللافت أن جبعيتي كان خاطب القارئ في مطلع روايته قائلاً: "لا تتعاطف مع الشخصية الرئيسية أو الكاتب، لأن التعاطف، من وجهة نظهرهما، هو أسوأ شعور إنساني. إنه تصريح غير معلن، عن شعورك بالتفوّق"، لافتاً إلى أنه في حالة وجود "أي شبه بأن أشخاص الرواية أناس حقيقيون، فذلك ليس صدفة محضة"، و"إذا لم تقرأ بدافع قوي ومقنع، وإذا كنت تعتقد نفسك نبيّ هذا العصر أو أحد قدّيسيه، فلا تقرأ، لأنها رواية عن الأنذال والآثمين"، مشيراً إلى أن "الرواية سهلة لكنها موجعة، لأننا أصبحنا لحمها ودمها"، قبل أن يختم حديثه للقارئ بعبارة "لا تقرأ وأنت عابس. اضحك أيها القارئ، يا أخي في المعاناة".
amm