الرئيسة/  مقالات وتحليلات

دفاتر فلسطينية..!

نشر بتاريخ: 2025-01-26 الساعة: 10:56

 

 حسن حميد


منذ أمد بعيد، وأنا أرى بأن سيرا للأدباء والكتاب والفنانين هي كتابهم الأوفى، والأكثر بيانا وتجذرا من القصائد والقصص والروايات والمقالات واللوحات والمنحوتات وأشرطة الدراما والمقطوعات الموسيقية التي يتركونها خلفهم، أقول هذا لأنني أقدمها على منجزهم الذي  تربخ فيها عصارة ما طمحوا إليه، وما سعوا إليه، وما حلموا به، وأقدمها على مؤلفاتهم أيضا لأن فيها مرجعياتهم، والأصول الأولى لمواقفهم، وما اقتنعوا به، وما جعلوه جوهرا راحوا يرجعون إليه وهم يحبرون صفحات كتبهم.

من هؤلاء الأدباء والشعراء أصحاب السير الغنية، الشاعر الفلسطيني معين بسيسو (1926-1984) الذي رحل في مثل هذه الأيام (23 كانون الثاني 1984) في مدينة لندن، وقد كان هناك بصحبة شعراء وأدباء فلسطينيين، في أسبوع الثقافة الفلسطينية، ومنهم محمود درويش، وسميح القاسم، ويحيى يخلف، وكان قد كتب قصيدته (المسافر) ليقرأها للمرة الأولى في لندن.

سيرة معين بسيسو هي أكثر من سيرة، وأهم من كتاب، وحضوره الإبداعي فيها أكثر من قصيدة،  وأوفى من قصة، فهو ابن غزة، المولود في حي الشجاعية، الدارس في مدارسها، والباحث عن المزيد من العلم في الجامعة الأمريكية في القاهرة حيث تخرج فيها حاملا البكالوريوس في الإعلام، وقد كان فيها نجما فلسطينيا يضيء كل ما حوله، وروحا مغناطيسية جاذبة لكل صاحب همة وضمير من أجل نصرة قضية الفلسطينيين، والتعبير عن قباحة الظلموت الإسرائيلي الذي طالهم،  وطال الحياة التي عاشها معين بسيسو في غزة، وهي حياة حافلة، غدت كتابه الثقيل الذي قرأ فيه كي يعرف تاريخ فلسطين وعمرانها، وثقافة الفلسطينيين وخصوبتها، ولماذا حدث للشعب الفلسطيني ما حدث، ولماذا تسابق أهل القوة على تأييد الظلم الذي وقع عليه، ولماذا تكاثر أهل الضعف والتثبيط واليأس والمرجئين حتى بعثروا الأحلام والغايات؛ حياة معين بسيسو كانت النبع الذي اغترف منه الماء والضوء والوهج والحضور كيما يغني ما كتبه ويثريه، وقد كان لحضور أخيه الأديب عابدين بسيسو الأثر الكبير الذي وسم حياته لكي يتقفى دربه، فقد درس مثله في الجامعة الأمريكية في القاهرة، وسافر مثله إلى الكثير من البلدان، وعمل فيها.

معين بسيسو الذي رأى ويلات الانتداب الإنكليزي، وظلم عساكره الذي طال البلدات والقرى والمدن الفلسطينية في غزة، ورأى السجون والمعتقلات التي افتتحها لاعتقال كل من يقول فلسطين عربية، وطارد الأطفال في لعبهم اليومي، وأناشيدهم المدرسية، ومشيهم في التظاهرات الوطنية، ورأى أيضا المخيمات الغزية، عام 1948 التي أنشئت للاجئين الفلسطينيين القادمين من كل ما يحيط بقطاع غزة، ولا سيما مدينة يافا، والمعاناة التي عاشوها بكل قسوتها وعذاباتها، وشظفها من رغيف الخبز وحبة الدواء إلى الثوب والكتاب المدرسي؛ ومعين بسيسو رأى ويلات النكبة الفلسطينية وما فعله الاحتلال الإسرائيلي، وقد كان صورة من صور الاحتلال البريطاني في القسوة والغطرسة والعنصرية، والبحث عن كل الوسائل المؤدية إلى تفتيت الروح الوطنية الفلسطينية.

معين بسيسو الشاعر، أبدع عشرات الدواوين الشعرية التي جعلت الوعي الفلسطيني جوهر الحياة الفلسطينية، فرسالة الشعر عنده رسالة لبناء الوعي بالجمال الإبداعي، وبالروح الثقافة التي تعمر الذات بالثقة الباحثة عن كل ما هو منار وحي في التاريخ الفلسطيني، لقد كتبت مقاطع من قصائده على جدران البيوت، والمدارس، والسجون، وانشدت في التظاهرات الوطنية.

ومعين بسيسو كان ناثرا من الطراز الرفيع، فقد كتب ما لم يكتبه الأدباء الذين أوقفوا حياتهم الأدبية على كتابة النثر، وقد اشتمل مكتوبه النثري على جميع فنون النثر، من السيرة، إلى الرحلات، إلى المسرح، إلى المقالة، إلى الحوارات، إلى القصة، إلى المذكرات، واليوميات، إن ما أنجزه معين بسيسو هو مدونة هائلة في ثرائها وجمالها وفرادة صوتها، والتصاقها بالهم الفلسطيني من جهة، والحلم الفلسطيني من جهة أخرى، رغم رحيله المبكر (56 سنة) شأنه في ذلك شأن رحيل أخيه عابدين (53 سنة) وقد ترك كلاهما مدونة أدبية هائلة في حجمها ومعطياتها الأدبية ومعانيها الوطنية.

وقد أحببت شعر معين بسيسوالذي يؤرخ للفعل الوطني الفلسطيني المشدود للتاريخ الفلسطيني بشقيه القديم والحديث ويماشيهما، أحببت وضوحه، وجرأته، ومناداته بالصوت العالي، أحب بلادي وأهل بلادي، وأحببت نثر معين بسيسو، ولاسيما مذكراته (دفاتر فلسطينية) التي طبعت مرات، بدءا من عام 1978 في دار الفارابي/بيروت، ومن خلالها يرى المرء معين بسيسو الشاعر والمسرحي والرحالة والقاص وكاتب المقالات والسيرة واليوميات، والمناضل الصلد كالصخور.

(دفاتر فلسطينية) كتاب من أهم الكتب التي تتحدث عن السجون والمعتقلات والزنازين التي عاش فيها الفلسطينيون تاريخا  من البطولة والمجد، رغم ما عرفوه من اضطهاد وتعذيب، وما كتبوه على جدران الزنازين بالمسامير وأزرة الثياب مرة، وبدمهم مرات، وقد كان معين بسيسو واحدا منهم.

و(دفاتر فلسطينية) كتاب من أهم الكتب الفلسطينية التي ترصد الخط البياني لحياة أي فلسطيني يقول: فلسطين، فلسطين، بكل منحنياته، وواحد منها هو منحنى المرور بالسجن كمكانعقاب لابد من العيش فيه، ردحا من الزمن.

 نثر معين بسيسو في (دفاتر فلسطينية) نثر جذاب، وموار بالحركة، والألوان، والمشاعر، والأحلام، ويعتمد، في رؤاه،  على التفاصيل التي تشكل حرائق صغيرة تماشي الأفكار والأسطر وصولا إلى الحرائق الكبيرة، ونرى في هذا النثر تلازم ثنائيات المكان والزمان، أعني غزة والمنفى، والبيت والسجن، والماضي والواقع،  والواقع والحلم، وغزة الحياة والإماتة، وغزة الاحتلال والحرية.

(دفاتر فلسطينية) كتاب يضم بين دفتيه جزءا حارا من الحياة التي عاشها معين بسيسو في غزة، مدرسا، وشاعرا، ومناضلا، كما يضم جزءا حارا من الحياة التي عاشها لاجئا في العواصم العربية، بحلوها ومرها، وهو كتاب جليل ..لحصاد عقل أنارته المعرفة الخضيلة، وشوته-كما الفخار-  التجارب  الحسوم بأفعالها..ونبلها في آن.

Hasanhamid55@yahoo.com

mat
Developed by: MONGID | Software House الحقوق محفوظة مفوضية الإعلام والثقافة © 2025