النموذج اللبناني.. وضوح الرؤية ووحدة القرار
نشر بتاريخ: 2024-12-01 الساعة: 22:34
د. دلال صائب عريقات
النموذج اللبناني، على الرغم من تعقيداته السياسية، أثبت أن وحدة الموقف وتفويض جهة شرعية وواضحة للتفاوض يمكن أن يثمر عن نتائج ملموسة. حزب الله، القوة العسكرية الأبرز في لبنان، فوّض الحكومة اللبنانية لإدارة ملف المفاوضات باسم الشعب اللبناني. هذا القرار الاستراتيجي لم يكن مجرد إجراء داخلي، بل أظهر فهمًا عميقًا لأهمية التعامل مع المجتمع الدولي بموقف موحد ورسالة واضحة، ما استوجب جدية الوسطاء.
غزة تحولت من مأساة سياسية إلى ملف إنساني؛ الوضع المأساوي الذي يعيشه الشعب الفلسطيني في غزة حوّل القضية الفلسطينية من قضية حقوق سياسية مشروعة إلى ملف إنساني يستجدي المساعدات الغذائية والدوائية. المشاهد اليومية لمآسي المدنيين، من تدمير المنازل إلى نقص المواد الأساسية وانهيار البنية التحتية، تُظهر أن القضية الفلسطينية لم تعد تُعامل كقضية حقوقية، بل أصبحت أزمة إنسانية وهذا خطر سياسي استراتيجي، إذا ما تم اختزال القضية الفلسطينية بملف المساعدات الإنسانية بدلاً من الحقوق السياسية.
إسرائيل، من جانبها، تسعى لاستغلال هذا الواقع الإنساني لتجنب الضغوط السياسية الدولية. من خلال الترويج لرواية تُلقي باللوم على حماس، تحاول إسرائيل تصوير نفسها كطرف يسعى للسلام، ما يعزز سرديتها أمام المجتمع الدولي. هذه الرواية تستدعي ردًا فلسطينيًا موحدًا لتفنيدها وإعادة القضية الفلسطينية إلى مسارها السياسي الصحيح.
الانقسام يضعف أي جهود للتفاوض ويمنح إسرائيل ذريعة مستمرة للتهرب من استحقاقات السلام ووقف إطلاق النار، ما يؤدي إلى إضعاف الموقف الفلسطيني. ضروري أن ترجح حماس الحكمة اليوم وتستفيد من النموذج اللبناني في تفويض الرئيس الفلسطيني لتولي ملف المفاوضات مع الأطراف الدولية وهو ما يُعد خطوة حيوية لضمان الشرعية والفعالية. مثل هذا النهج الموحد يمكن أن يُضعف ذرائع إسرائيل التي تلقي باللوم على الانقسامات الفلسطينية، وتعزز موقف المجتمع الدولي لدعم الفلسطينيين.
الرئيس الأمريكي جو بايدن تحدث عن فرصة جدية تستدعي استجابة فلسطينية، في إعلانه عن وقف إطلاق النار بين إسرائيل ولبنان، أبدى جديته في العمل على ملف غزة مع الشركاء من قطر ومصر وتركيا. هذا الإعلان يُمثل فرصة للفلسطينيين، لكن استثمار هذه الفرصة يتطلب استجابة فلسطينية موحدة تُظهر الجدية والتحضير للتعامل مع هذه الفرصة قبل خروج إدارة بايدن من البيت الأبيض. ودونالد ترامب أكد أنه يريد وقفاً لإطلاق النار في غزة، وإنهاء ملف الأسرى قبل ٢٠ يناير ٢٠٢٥، أي قبل وصوله البيت الأبيض. في هذا السياق، يصبح من الضروري تشكيل فريق خبراء فلسطيني يتمتع بالكفاءة والشرعية لتمثيل الشعب الفلسطيني.
هذا الفريق يجب أن يُفوَّض رسميًا بتوافق وطني من جميع الأطراف الفلسطينية تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية، ليكون قادرًا على التحدث بصوت واحد يمثل جميع الفلسطينيين. يستغل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الوضع الحالي لتبرير تعنته. يُلقي نتنياهو باللوم على حماس كذريعة لتأخير أي اتفاق، وهو ما يتطلب من الفلسطينيين إعادة ترتيب أوراقهم وإظهار موقف موحد قادر على مواجهة هذه المزاعم.
الدروس المستفادة من النموذج اللبناني تُبرز أهمية وضوح الرؤية وتوحيد الجهود السياسية. الفلسطينيون بحاجة إلى تجاوز الخلافات الفصائلية والتحدث بصوت واحد يعبر عن تطلعاتهم للحرية والكرامة والسلام. الاتفاق السلمي لوقف إطلاق النار ليس خيارًا، بل ضرورة إنسانية وسياسية للشعب الفلسطيني الذي يعاني من الاحتلال والعدوان المستمر. إن اتفاقيات وقف إطلاق النار، كتلك التي أبرمت بين إسرائيل ولبنان، تُظهر بوضوح أن الحروب تنتهي إلى طاولة المفاوضات وأن الدبلوماسية يمكن أن تكون أداة حاسمة وفعّالة عندما تُدار بوساطة جادة. اليوم، الشعب الفلسطيني، وخاصة في غزة، يعيش في ظل معاناة إنسانية هائلة، تجعل الحاجة إلى اتفاق مماثل ضرورة لا تحتمل التأجيل.
لكن الوصول إلى هذا الاتفاق يتطلب مسؤولية دولية حقيقية، حيث يبرز قرار مجلس الأمن رقم 2735 أهمية التزام العالم بتحقيق السلام. ومع ذلك، فإن تحقيق هذا الهدف لن يكون ممكنًا ما لم تتحمل الولايات المتحدة دورها كوسيط رئيسي وتضغط على جميع الأطراف لاتخاذ خطوات جدية تضع حدًا لمعاناة المدنيين، وتُرسخ مبدأ احترام النظام العالمي القائم على القواعد.
اتفاق وقف إطلاق النار ليس الحل النهائي، لكنه خطوة أساسية نحو تخفيف المعاناة الإنسانية وإعادة التركيز على الحقوق السياسية للشعب الفلسطيني. تحقيق وقف إطلاق نار مستدام يتطلب قيادة فلسطينية قادرة على صياغة رؤية واضحة تطالب برفع الحصار وانسحاب الجيش الاسرائيلي، ووقف العدوان وإدخال المساعدات بشكل غير مشروط كمتطلبات أساسية.
وعلى الصعيد الفلسطيني، التوصل لاتفاق يستجدي تشكيل فريق مختص يمتلك الكفاءة والشرعية لتمثيل الشعب الفلسطيني بأسره. فريق خبراء بعيد عن السياسيين مؤهلاً للتعامل مع الضغوط الدولية وتفنيد الروايات الإسرائيلية التي تلقي باللوم على الانقسام الفلسطيني بحيث تبقى الحقوق السياسية الفلسطينية خطًا أحمر لا يمكن تجاوزه، إذ أن الكرامة الوطنية لا تقل أهمية عن وقف العدوان.