اخلاقيات اللاجىء الفلسطيني /
نشر بتاريخ: 2024-05-13 الساعة: 16:16اعداد / خالد غنام
إن تجربة الفلسطينيين مع اللجوء تتعدى ٧٤ سنة حتى اليوم، فقد بدأت بطرد الثوار الفلسطينيين منذ الثورة الكبرى في فلسطين (١٩٣٦-١٩٣٩) وكان على رأسهم قيادات العمل الوطني أمثال الحاج أمين الحسيني، وصولاًا للنكبة عام 1948 ثم النكسة وجموع النازحين في العام 1967م.
ترك اللجوء حالة انكسار مزمنة بالعقلية الفلسطينية باعتقادي يتلخص بالمثل الشعبي: "إللي خرج من داره قلّْ مقداره".
فعلى الرغم من التعاطف العربي مع اللاجئين الفلسطينين إلا أنهم شعروا دائماً أنهم مكسوري الجناح، وأنهم جزء زائد في المجتمعات العربية يقتاتون على فضلة فرص العمل ويسكنون في الخرائب على أطراف المدن، كما أنهم شعروا بآلام فقدان حق المواطنة وأنهم لا يقررون شؤونهم الداخلية فهي من اختصاص البلاد المضيفة، التي لم تكن قادرة على تقديم الخدمات لهم لافتقارها الموارد الاقتصادية.
في نظرة عميقة في التاريخ الفلسطيني نرى أن الشعب الفلسطيني حافظ على فلسطين كأرض مقدسة تحتضن كل شريد ومهجر، فكانت (الشام وفلسطين منها) ملجأ تستقبل الناجين من العرب بعد سقوط الأندلس، وكذلك لجأ إليها الثوار الجزائرين المنفيين بعد الاستعمار الفرنسي فرنسي منذ عام ١٨٣٤ وأسسوا قرى لهم في قضاء صفد، وكذلك الأرمن والشركس والشيشان والداغستانيين وغيرهم من الهجرات الجماعية، أما الهجرات الفردية فهي لا تعد ولا تحصى.
ضمن هذه الخلفية الثقافية يكون الفلسطينون على دراية تامة، بهموم اللاجئين ومشكلاتهم المزمنة وكذلك هم يعرفون ويلات الحروب وأن الشعوب لا يغادرون بلادهم إلا بعد أن يفقدوا شعورهم بالأمان، فيكون خروجهم لتنجوا أجسادهم رغم أن قلوبهم تبقى حبيسة الوطن.
من تجربتي الشخصية تعاملت مع لاجئين من دول كثيرة لعل أهمها الأفغان وفيتنام وتاميل واثيوبيا وبالتأكيد لاجئين الدول العربية الشقيقة، والعامل المشترك بينهم الشعور بالانكسار وعدم الاستقرار حتى بعد إعادة توطينهم بالبلاد الغربية.
وقد تم تصنيف مشاكلهم النفسية في قسم خاص بعلم النفس اسمه عقدة اللاجئ المزمنة، فلا يمكن أن ينسى اللاجئ وطنه مهما كان عرقه أو دينه أو إيمانه بقيادته السياسية والدينية، مما يخلق داخله شعور بضعف الانتماء لمجتمعه الجديد وصعوبة خلق ولاء للنظام السياسي المضيف له حتى لو حصل على حقوق المواطنة كاملة.
يمتاز اللاجئ بعاطفة زائدة تجعله يتحسس من نظرة شفقة أو كلمة تنقص كرامته، بل أنه يبالغ بإحساسه أن وطنه هو جنة الله بالأرض وأن باقي بلاد العالم لا تساوي دقيقة يعود بها إلى حياته الطبيعية في وطنه، كما أن صورة الوطن عنده مختزلة بهيئة الوطن قبل رحيله، وهو يرفض أي تغير يحصل في وطنه، أي تغير إيجابي أوسلبي يحرك هيئة الوطن المتخيل يرفضها اللاجئ ويعتبرها متطفلة على الوطن، بل أنه ينزع الوطنية عن أبناء وطنه، الذين يسعون لتطوير الوطن فهذا بالنسبة له تغيير بحقيقة الوطن.
كما أن إحساسه بالظلم تجعله يقلل من مصائب الآخرين، وكأنهم لم يعانوا مثلما عانى، وأن العالم كله لم يحرك ساكن لمنع المؤامرة التي تعرض لها.
هذا يدفع بعض اللاجئين لفعل أعمال وأقوال مشينة، أخطرها الشماتة باللاجئين الآخرين؛ كأن يقول ذوقوا ما تجرعت ألمًا، أو أنه يفرض نفسه عنه في فعاليات الآخرين ويقول قضيتهم جديدة أما قضيتي فهي قديم وبحاجة لحل عاجل.
هذه التصرفات تنم عن إحباط نفسي عميق يجعل اللاجئ انطوائي وغير قادر على فهم حقيقة ما يحدث حوله، بل أنها تسبب بآلام أخطر بعدما يفقد حاضنته المؤيدة له بسبب استهجانها لتصرفاته.
اللاجئ بطبيعة يتابع الأخبار السياسية ويحاول قدر الإمكان فرز العالم لمعسكر الحلفاء ومعسكر الأعداء، إلا أنه يطالب معسكر الحلفاء بالتفرغ الكامل لقضيته هو دون أي قضية أخرى، وهذا لا يمكن أن يتحقق فتراه، ينفي صفة الحلفاء على الكثير من الأصدقاء لأنهم وضعوا قضيته بأسفل ذيل اهتماماتهم، وهذا يعني أنه يوسع معسكر الأعداء مما يسبب بإحباط مزمن برؤيته لمستقبل وطنه.
اللاجئ يمتلك طبيعة حالمة تجعله يتعلق بأوهام السياسيين الذين يتاجرون بمشاعره فيسقط عليهم قدسية لأنهم يضعون قضيته في أعلى سلم تصريحاتهم الإعلامية إلا أنهم لا يحركون ساكنًا على أرض الواقع، لكن اللاجئ يضع حولهم هالة دينية ويرفض من يقلل من شأنهم .
والسبب الحقيقي وراء ذلك هو قناعته التامة أنه لن ينتصر إلا بدعم خارق لقوى ربانية، مما يجعل مسألة تحرير الوطن فوق طاقة البشر لذا فهو لا يلوم السياسيين بقدر أنه ينتظر مشيئة الرب، وهذا بالحقيقة هروب تواكلي من حل أزمة التحرير الوطني واستهتار بعقليات الآخرين عندما يرفض أولويات الحلفاء الطبيعيين وينجر خلف أوهام سياسيين وضع لهم هالة دينية.
اللاجئ العقلاني (ومنه نحن الفلسطينيون) هو مَن :
• يسعى أن يكون جزء من الفعل الميداني لمساندة من بقية من شعبه في الوطن
• ويعمل على توسيع دائرة التضامن الشعبي حوله
• ويتعلم من تجارب اللاجئين الآخرين
• ويشعر بأوجاعهم
• ويرفض الاحتلال لأراضي الغير وطرد الشعوب من أوطانهم.
وهذا الإيمان الراسخ بالعودة سيفتح له آفاق كبيرة لفهم معسكر الحلفاء، وسيشعر بتفاؤل عندما يرى أن بعض اللاجئين عادوا لأوطانهم.
هذه العقلانية الثورية ستبني ثقة داخله بأن العدل سيسود يومًا ما وسيعود هو حتمًا لوطنه.