إنها "محرقة القرن"!
نشر بتاريخ: 2023-10-19 الساعة: 15:29
كتب/ موفق مطر
يدا صغير، بدا وكأنه بالأمس تحرر من الرضاعة الصناعية، أصابع غضة طرية، لا تقوى على طوي زهرة الياسمين،، تكافح للتعلق بقشة حياة في موج إعصار الموت العنصري الصهيوني، شفتاه يرجفهما الهلع والخوف، وعيناه زائغتان ما بين وجهي الممرض والمسعف تبحثان عن حضن امه الدافئ، لكنها ليست هنا، ولا مصيرها معلوم، فربما سخام بارود قنابل القتلة الغزاة المجرمين وغبار بيته الآمن الذي ولدت فيه براءته، يرسم لبصائر الباحثين عن الإنسانية تحت الركام عن حضنها، عن قلبها، عن كبدها الذي بات هنا شاهدا على مذبحة العصر.
هناك عند ثلاجة الأجساد المرتقية أرواحها في عز نهار الجريمة، أو في ليل الضمائرالمنطفئة أبدا، طبيب هرع لنجدة نبض في قلب فلسطيني إنسان، فإذا نصل الغزاة المحموم بنيران الجحيم كلغم موقوت في جسد أبيه، فيصيب من مسافة صفر وهو الحي بثياب ملائكة الرحمة، وفي زاوية ما بين الأجساد النازفة، ووراء رداء أبيض في طوارئ المستشفى، حضر على عجل رسول بعدسته ليبث للعالم الحقيقة، فإذا هي مكتوبة بوقائع لا تدحضها دعاية مضادة، ولا صور مزيفة، فرسالة زميلنا الصحفي هي الصدق والطهر من الرياء، هنا في اللحظة الثابتة في الصورة، أدرك رسولنا أن دماء عائلته قد كتبت له القصة والرواية لذوي الألباب والعقول القارئة بأبجدية الانسان، وما عليه إلا أن يحكيها قلبه المنفطر، وتثبتها دموعه غير القابلة للتبخر أو الجفاف.
هنالك رجال، شباب وحتى أطفال لا يعيرون للموت مكانة، ينبشون الركام المسود كدماء المجرمين الذين ظنوا أن الدماء في عروقهم زرقاء ويحق لهم إبادة أبناء آدم ذوي الدماء الحمراء، يبحثون عن قريب أو حبيب أو صديق أو اصيل في الحي أو غريب وطئ المكان قبل لحظات، يبحثون عن أنفاس، عن أنين، عن استغاثة تخرج إليهم على أثير الأمل، وينتشلون أجساد أعزاء على قلوبهم، صرعتها قنابل المجرمين بحق الإنسانية، وآخرون على بعد خطوتين يلملمون أشلاء من كان معهم بالأمس يضج حيوية وتفاؤلا بالحياة، لكن (سيوف العنصريين) الحديدية كانت أسبق، فقطعت آماله وأحلامه في اليقظة، وأبقت على جسده المتناثر متفحما رسالة إرهاب ورعب للأحياء، لكن المشهد يوحي أنهم قد ظنوا وأن ظنونهم ليست أكثر من أضغاث.
نقرأ من صفحة فلسطين، في فصول وأبواب كتاب الإنسانية، أن الأجنة في أرحام أمهاتهم أموات حتى يثبت القدر حكمه لهم بالحياة، فالموت المدبر ولو بالقهر والمرض والفقر من بعد قذارة السلاح الفتاك لهم بالمرصاد، فهنا جنين كان بينه وبين ضوء الدنيا لحظة ليصرخ مستبشرا بالحياة، فحولها مقدسو القتل للأجنة في أرحام الفلسطينييات إلى الجحيم بعينه، فتنكتم صرخته إلى الأبد، وينقطع حبله السري مع والدته التي اختلط حليب صدرها بدمائها، وسكنت شظايا قنابل الهمجيين مكان جنينها (ولدها) .. ولكن أي قوة ظلم وجبروت ووحشية في العالم هذه التي ستقوى على حبل سري بين فلسطينية ما زالت تؤمن الحياة وبين أرض وطنها؟!.
تغتصب الطائرات الحربية سماء غزة، وتقصف أعمار عائلات صغيرها قبل كبيرها، فهنا يمنح رؤوس الهمجية في منظومة الصهيونية الدينية السياسية العنصرية الإرهابيين في العالم درسا عمليا في الإبادة، فالعائلة المقدسة لدى المؤمنين في العالم باتت بنظر نيرون إسرائيل نتنياهو ووزير حربه غالانت وحوشا بشرية وباتت بحكم (العائلة الميتة) المسفوك دم أفرادها، كانوا أربعة أو خمسة، أو حتى تسعة، ومعهم جيرانهم سبعة، ومن على يمينهم ستة، أوعلى يسارهم عروسان كانا يحلمان بشهر عسل، وبذات اللحظة يسرق قناص هنا متمرس ومتمترس في برج عسكري أو على حاجز عسكري أو على مفرق شرايين الحياة اليومية للمواطنين أهل الأرض الأصليين، يسرق روح طفل فلسطيني لم تعرف نفسه معنى المراهقة بعد، كما يسرق المستوطنون الغزاة الغرباء عن منطق وقيم الإنسانية بقوة سلاح وإرهاب حكومة منظومتهم أرض أجداده وما عليها من شواهد تاريخية ورموز مقدسة.
هنا وهناك في فلسطين صور دموية، قد تجف أقلامنا كلها ونحن نخطها ونرسمها على أمل بزوغ إشراقة الحياة لنا بالأمان والسلام، وبإيمان بأن مذبحة العصر، بل قل "محرقة القرن" تؤلمنا لكنها لا تهزمنا ولا تفنينا، فكيف يفنى شعب اختار الحياة سبيلا للحياة.
mat