الرئيسة/  عربية ودولية

حرب اليورانيوم.. المعركة القادمة بين روسيا والغرب في الساحل الأفريقي

نشر بتاريخ: 2023-09-03 الساعة: 15:47



تقرير / ميرفت عوف 


بمجرد استيعاب باريس صدمة وقوع انقلاب النيجر، خرج الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يوم 30 يوليو/تموز الماضي بتصريح يكشف عن حجم إحساسه بالخطر معلنا أن بلاده "لن تتسامح مع أي هجوم على فرنسا ومصالحها" في هذا البلد غرب الأفريقي. (1)

كان ماكرون يدرك حجم التهديد الذي قد يلحق بأمن الطاقة في المفاعلات الفرنسية، فالبلد الذي وقع تحت سطوة مجلس عسكري انقلابي مناهض لباريس (2) يُعَدُّ أقدم رابط بين فرنسا وبين اليورانيوم الذي يُشغِّل المفاعلات التي تولد كهرباء المستعمر القديم. وفيما تمتعت فرنسا عبر العقود الماضية بالوصول الحصري إلى يورانيوم النيجر، يبدو أن التغييرات الجديدة تُلقي بظلالها على المصالح الفرنسية التي تحدَّث ماكرون عنها غير ما مرة.

اكتشفت فرنسا لأول مرة اليورانيوم في أزيليك النيجرية عام 1957، قبل الإعلان رسميا عن افتتاح أول منجم لتعدين اليورانيوم على يد الفرنسيين في مدينة أرليت عام 1971. (الجزيرة)
بمجرد تجاوز (3) لافتة "Arlit" التي كُتبت بحروف صدئة، يشعر المرء أن لقب "باريس الثانية" الذي حظيت به مدينة "أرليت" النيجرية في محله تماما، حيث تروي المدينة القابعة وسط الصحراء الكبرى على بُعد 900 كيلومتر شمال شرق العاصمة نيامي رواية مرور الاستعمار الفرنسي منها ذات يوم، قبل أن تنتهي هذه المرحلة باستقلال النيجر عام 1960.

على مدار الستين عاما الماضية، ظلت فرنسا (4) مهووسة بالحفاظ على موطئ قدم لها في دول غرب أفريقيا عامة، حيث أقامت العلاقات السياسية والدبلوماسية والعسكرية والاقتصادية مع حكام دول مستعمراتها القديمة، وهي شبكة يُشار إليها غالبا باسم "فرانس أفريك" (Françafrique). لكن على مستوى خاص جدا، حظيت النيجر، وهي الدولة الفقيرة الواقعة في الساحل، بمكانة خاصة لدى باريس، إذ تساهم في إضاءة (5) واحد من كل ثلاثة مصابيح كهربائية في فرنسا، فيما تغرق غالبية المناطق في البلاد في العتمة، حيث لا يحصل ما يقرب من 90% من السكان على الكهرباء بانتظام.

اكتشفت فرنسا لأول مرة (6) اليورانيوم في أزيليك النيجرية عام 1957، قبل الإعلان رسميا عن افتتاح (7) أول منجم لتعدين اليورانيوم على يد الفرنسيين في مدينة أرليت عام 1971، حين قامت شركة "أريفا" الفرنسية المملوكة للدولة والمعروفة حاليا باسم "أورانو" بمهام استخراج المعدن الأكثر استخداما لتوليد الطاقة النووية الفرنسية.

ومع مرور الوقت، أصبحت أورانو تدير ثلاثة مناجم في النيجر (9)، واحد منها فقط قيد الإنتاج حاليا هو منجم "سومير" في أرليت الذي تديره الشركة بالشراكة مع شركة سوبامين النيجرية، فيما أُغلِق "منجم أكوتا" الواقع على بُعد نحو عشرة كيلومترات من المدينة عام 2021، مع ذلك لم تهجر أورانو الموقع، حيث ستقوم فيه بأنشطة "ما بعد المنجم" حتى عام 2033، وبالمثل أغلق (10) منجم "إيمورارين" الواقع على بُعد 80 كيلومترا جنوب أرليت أبوابه، وهو الذي يُعَدُّ موطنا لأحد أكبر رواسب اليورانيوم في العالم، حيث عُلِّق الإنتاج في الموقع بسبب عدم وجود ظروف سوق مواتية. وتعتمد فرنسا بشكل كبير على اليورانيوم في الطاقة النووية التي تولد منها الكهرباء* (11)، حيث لا تزال باريس واحدة من 13 دولة عضوا في الاتحاد الأوروبي تستخدم محطات الطاقة النووية (12) للحصول على طاقتها الكهربائية، وهي تجادل (13) بأن الطاقة النووية تقدم بديلا منخفض الكربون للوقود الأحفوري في إنتاج الكهرباء.

قبل عام 2000، كانت فرنسا (14) تعتمد بشكل أساسي على إنتاجها المحلي من اليورانيوم، لكن مع نضوب اليورانيوم داخل الأراضي الفرنسية حيث أغلق آخر منجم فرنسي عام 2001، ركزت الحكومة الفرنسية أكثر على سياسة التنويع في استيراد اليورانيوم من أصل أجنبي، بوصفه مصدرا آمنا لشركة الطاقة الفرنسية (EDF) المشغل لمحطات الطاقة النووية في فرنسا، وعملا (15) بتوصية قديمة العهد لوكالة الإمداد التابعة للجماعة الأوروبية للطاقة الذرية (Euratom).

وفي السنوات الأخيرة، ركزت (16) إستراتيجية باريس في جلب اليورانيوم على دول آسيا الوسطى مثل أوزبكستان وكازاخستان وأستراليا، وذلك لأسباب تتعلق بالتكلفة، فحتى عام 2022 كان لفرنسا خمسة موردين لليورانيوم: كازاخستان، وأوزبكستان، وأستراليا، وكندا، بالإضافة إلى النيجر التي ظلت (17) توفر 15% من احتياطات فرنسا من المعدن المشع، فيما تتحكم شركة أورانو في معظم إنتاج البلاد الذي يُشكِّل أكثر من 4% من إجمالي الناتج العالمي.

ورغم أن النيجر لم يعد الآن الشريك الإستراتيجي لباريس كما كان في ستينيات أو سبعينيات القرن الماضي، ظل استخراج اليورانيوم من النيجر على يد الفرنسيين حتى يومنا هذا قضية مشتعلة، وذلك بسبب بحجم مبيعات شركة أورانو الفرنسية، الذي كان قبل نحو عقد من الزمان (18) يصل إلى 9 مليارات يورو (12.4 مليار دولار) سنويا، أي يزيد على أربعة أضعاف الميزانية السنوية للنيجر (البالغة مليارَيْ يورو) بالكامل، حيث أثار ذلك غضبا داخليا حول ضرورة استخدام الأموال من الصناعات الاستخراجية لتعزيز التنمية في أحد أفقر بلدان العالم وأقلها نموا.

أثار الغضب أيضا حوادث الإهمال من قبل الفرنسيين الذين تركوا عندما استخرجوا اليورانيوم مستويات خطيرة من النفايات المشعة بين السكان المحليين الذين يعيشون بالقرب من المناجم، فقد تُركت (19) بلدة أرليت وحدها مع 20 مليون طن من النفايات المشعة بعد إغلاق منجم "أكوتا" في عام 2021.


 

اليورانيوم في قلب المخاوف الفرنسية
كان موظفو شركة أورانو الفرنسية منهمكون في عملهم عندما تلقوا خبر (20) وقوع انقلاب عسكري في البلاد يوم 26 يوليو/تموز الماضي. كان على إدارة الشركة الفرنسية آنذاك العمل على طمأنة موظفيها وتهيئتهم أيضا للتكيف مع السياق الحالي وأوله حظر التجول في جميع أنحاء النيجر. وبالفعل، استطاع (21) موظفو أورانو البالغ عددهم 900 شخص في النيجر -معظمهم مواطنون نيجريون- مواصلة أنشطتهم من داخل مقر الشركة في نيامي، وفي مواقع العمليات في أرليت وأكوكان، ورغم أنه لا يوجد حتى هذه اللحظة ما يشير إلى أن الشركة ستضطر إلى مغادرة النيجر، فإن مخاوف عدة أُثيرت لدى إدارة الشركة العاملة في البلاد منذ 50 عاما، كاحتمالية طرد المجموعة الفرنسية من قِبل العسكريين، أو وقوع أي طارئ يدفعها للانسحاب القسري.

في البداية، يمكن القول إن منع الشركة من استكمال عملها بأي شكل من الأشكال لن يقتصر على إلحاق خسائر اقتصادية جمة بها، فعدم وجود بديل عنها أو التخلي عن العمليات الأمنية في المنجم (22) سيؤدي إلى وقوع مخاطر صحية وبيئية كبيرة، بسبب تلوث المياه الجوفية التي قد يستخدمها السكان بترسبات اليورانيوم، حيث تؤدي الشركة مهام تغطية المخلفات والصخور المتبقية لمنع الغبار المشع من الانتشار أو منع مياه الأمطار من تحميل المياه الجوفية وتلويثها.

وفي وقت يُبرز فيه انقلابيو النيجر عضلاتهم متحدين فرنسا والمجتمع الدولي، لا يمكن تجاوز حقيقة كون فرنسا المستعمر القديم للبلاد تلعب دورا لا يمكن الاستغناء عنه على الفور. بادئ ذي بدء تقدم باريس (23) حزمة مساعدات اقتصادية وتنموية كبيرة منذ عقود للبلاد التي يعيش 40% من سكانها في وسط الفقر، حيث تُشكِّل المساعدات الخارجية 9% (24) من الناتج المحلي الإجمالي، ونحو 40% من ميزانية الدولة، فيما تتجه 33% من صادرات النيجر التي تعاني من انحدار اقتصادي حاد إلى فرنسا، وكلها تقريبا تتكون من الوقود المشع.

تتخوف باريس من مصير استقرار الطاقة اللازم للصناعة النووية الفرنسية الضرورية بالفعل لإنتاج الكهرباء. (رويترز)
في الحقيقة، ستجد النيجر في حال إصرار الانقلابيين على إنهاء الوجود الفرنسي، واستمرار تعليق المساعدات الفرنسية من قِبل باريس، صعوبة في العثور على الشريك المناسب البديل للمساعدة في تعدين اليورانيوم ومتابعة عملية بيعه. أما بالنسبة للحكومة الفرنسية، فلا تقتصر مخاوفها على الضجر المتزايد من نفوذها السياسي المتقلص داخل النيجر وعبر منطقة الساحل على نطاق أوسع، بل تتخوف باريس من مصير استقرار الطاقة اللازم للصناعة النووية الفرنسية الضرورية بالفعل لإنتاج الكهرباء (25).

في هذا السياق، سرعان ما جاءت إشارات تدعم مخاوف باريس، مع تصاعد الخطاب المناهض لفرنسا من قِبل العسكريين الذين اتهموا الحكومة الفرنسية "بالرغبة في التدخل عسكريا" في بلادهم (26)، ليهدد المجلس العسكري في البلاد بعدها بتعليق صادرات المعدن الثقيل إلى فرنسا، وهو ما أعطى فكرة لباريس عما ينتظرها في واحدة من أهم مستعمراتها الأفريقية السابقة، بعدما تلقت في الآونة الأخيرة ضربات خطيرة متلاحقة بسبب الانقلابات المناهضة لنفوذها في دول مالي وغينيا وبوركينا فاسو.

في اللحظات الأولى لوقوع الانقلاب، جادل (27) الفرنسيون بأن منع اليورانيوم لن يكون ذا ضرر على فرنسا في المدى القصير والمتوسط، كون باريس تملك مخزونا إستراتيجيا من اليورانيوم في جميع مراحل التحول تعادل عامين من الاستهلاك. ومع ذلك لا ينكر الفرنسيون أنفسهم أن النيجر ما زالت تلعب دورا مهما في إمدادات البلاد من اليورانيوم، ومن شأن تعليق عملية استغلال هذا المعدن من النيجر المقدر بـ15% من احتياجات محطاتها النووية أن يؤثر على عملية حصولها على الطاقة، فنحو 70% من كهرباء فرنسا مستمدة من الطاقة النووية، إذ تُعَدُّ الدولة الأكثر اعتمادا على الطاقة النووية في العالم.

كان زعيم (28) المجموعة الروسية شبه العسكرية فاغنر يفغيني بريغوجين -الذي قُتل مؤخرا في تحطم غامض لطائرته- من أوائل مَن تدخل في أزمة انقلاب النيجر، فالرجل الذي تدفق الآلاف من مقاتليه إلى دول مالي وبوركينا فاسو بعد استيلاء عسكري مماثل على البلاد سرعان ما عرض المساعدة على العسكريين في النيجر، وهو أمر أثار عدة مخاوف منها مصير اليورانيوم الذي يُصدَّر إلى فرنسا والاتحاد الأوروبي في حال قبول عرض فاغنر أو الروس عامة من قِبل المجلس العسكري في النيجر.

ومع عدم استبعاد احتمالية أن يلجأ (29) الحكام العسكريون الجدد في النيجر لاستخدام ورقة اليورانيوم ومنع شحناته عن الغرب ردا على عقوبات الاتحاد الأوروبي وقطع المساعدات، يتعين علينا الوقوف قليلا عند أهمية النيجر لاستقرار الطاقة الأوروبي، فنيامي كانت (30) في عام 2021 أكبر مورد لليورانيوم إلى الاتحاد الأوروبي، تليها كازاخستان وروسيا، وفقا لوكالة الإمداد التابعة للجماعة الأوروبية للطاقة الذرية، وهي الآن (31) سابع أكبر منتج لليورانيوم في العالم. تزيد أهمية النيجر إذا علمنا حجم أهمية الطاقة النووية في أوروبا، ففي عام 2022، شكَّلت (32) نحو 10% من استهلاك الطاقة في الاتحاد الأوروبي، دون نسيان معطى مهم للغاية، وهو أن النيجر لا تحظر استخدام اليورانيوم لإنتاج الأسلحة النووية، بينما يقصر منتجو اليورانيوم الرئيسيون الآخرون مثل أستراليا وكندا بشكل صارم استخدام المعدن على المجال المدني.

وحتى بالنظر إلى البدائل عن اليورانيوم النيجري، لا يقدم لجوء فرنسا والاتحاد الأوروبي إلى الدول المنتجة المهمة مثل كازاخستان أو أوزبكستان ضمانات حقيقة لاستقرار الطاقة، ففي وقت لن تتوانى روسيا عن استخدام الطاقة سلاحا اقتصاديا، فإن هذين البلدين (33) اللذين يُمثِّلان وحدهما نصف اليورانيوم الطبيعي الذي تستورده فرنسا ويُشكِّلان نحو 50% من إمدادات المعدن في العالم هما في المحصلة جمهوريتان سوفيتيان سابقتان تقعان تحت سطوة الكرملين، إذ يُنقَل كل وقودهما المشع على يد شركة روساتوم، وهي شركة الطاقة النووية الوطنية الروسية.

تُعد روسيا نفسها موردا كبيرا (34) آخر لليورانيوم المستخدم في المحطات النووية الأوروبية، وتُعَدُّ أيضا أحد أكبر مصدري اليورانيوم في العالم (35) (36)، وهي تسيطر على ما يقرب من نصف قدرة تخصيب المعدن المشع عالميا. يعني ذلك في المحصلة أن هناك قبضة روسية خانقة أطلق عليها المسؤولون الأميركيون (37) مؤخرا "نقطة ضعف إستراتيجية غير مستدامة"، فنحو ثلث اليورانيوم المخصب الذي استهلكته المرافق الأميركية العام الماضي آتٍ من روسيا. وفي وقت لا يزال اليورانيوم والطاقة النووية عموما غير خاضعة للعقوبات الدولية، فإن الاتحاد الأوروبي قد يكون مضطرا للتحول عن تبني (38) عقوبات ضد روسيا في القطاع النووي، أو على الأقل تأجيل هذه العقوبات حتى حين.

ومع إظهار موسكو استعدادها لدخول معركة النفوذ في النيجر، تخشى فرنسا والغرب من أن يقدم الكرملين فعليا على استخدام اليورانيوم بوصفه سلاحا اقتصاديا (39) لذا فإنهما تستعدان للدفاع عن مصالحهما حتى النهاية، مع يعني أن الدولة الساحلية الفقيرة والمهمشة في طريقها للتحول إلى ساحة لصراع النفوذ على حساب سكانها الفقراء والمهمشين.

 

لديها ثاني أكبر أسطول في العالم بعد أسطول الولايات المتحدة- البالغ عددها 56 في محطات الطاقة الثمانية عشر باستخدام اليورانيوم.

mat
Developed by: MONGID | Software House الحقوق محفوظة مفوضية الإعلام والثقافة © 2024