"صوت العاصفة"
نشر بتاريخ: 2022-05-22 الساعة: 14:20
د. خالد جميل مسمار
مر يوم 11/ 5 الذي انطلقت فيه إذاعة الثورة الفلسطينية في العام 1968، والذي غطى عليه اغتيال فقيدة الكلمة الأمينة شيرين أبو عاقلة برصاصة صهيونية غادرة، مر دون أن يتنبه له الاعلاميون الفلسطينيون والعرب، حيث غطت جريمة المحتلين في نفس اليوم على ذكرى إذاعة "صوت العاصفة، صوت فتح، صوت الثورة الفلسطينية".
في ذلك اليوم 11/ 5/ 1968 كان الشعب الفلسطيني والشعوب العربية على موعد مع سماع صوت جديد.. صوت يمسح اصوات الهزيمة النكراء التي جرت في حرب حزيران العام 1967، والتي يطلق عليها "حرب الأيام الستة".. صوت انطلق بعد الانتصار الكبير في معركة الكرامة الخالدة التي حقق خلالها الفدائي الفلسطيني من ثوار حركة فتح مع الجندي الأردني، تحطيم مقولة؛ الجيش الذي لا يقهر، وعنجهية الجنرال دايان وزير الحرب الصهيوني الذي كان يعلق ساخرا ان فتح بيده كالبيضة يستطيع تحطيمها متى شاء!
انطلق "صوت العاصفة" ليعلن على الملأ أن الشعب الفلسطيني الذي ادعى جون فوستر دالاس وزير خارجية اميركا في الخمسينيات وكذلك جولدا مائير وقادة الكيان الصهيوني، ان كبار هذا الشعب سيموتون وان الصغار سينسون، أعلن صوت العاصفة ان هذا الشعب موجود ويقاتل ويدافع عن حقوقه المسلوبة بعد اخراجه من أرض وطنه وينتصر بعد ان قررت قيادة فتح انشاء اعلام ثوري يعلن الحقيقة ويطالب بحق الشعب الفلسطيني في العودة الى وطنه الذي هجر منه واقامة دولته العتيدة.
فاختارت القيادة أحد الاعلاميين المشهود لهم في العمل الاعلامي وخاصة الإذاعي منه، وهو المرحوم فؤاد ياسين (أبو صخر).
اختار أبو صخر ثلة من شباب تنظيم حركة فتح الذين يدرسون في الجامعات المصرية.. تمخضت عن أربعة: الطيب عبد الرحيم رحمه الله، وخالد مسمار ويحيى العمري وعبد الشكور التوتنجي بالاضافة إلى عبد الله حجازي.
بدأت الاذاعة بهذه الأصوات الجديدة بعد تدريب سريع وكانت أصواتا مختلفة، وأداء مختلفا عن سائر اذاعات العالم العربي واشتهرت بإذاعة البلاغات العسكرية وذلك لكثرة ما كان يقوم به الفدائي الفلسطيني ضد الاحتلال الصهيوني من عمليات فدائية شبه يومية.
انجذب الشارع الفلسطيني والعربي إلى هذا الصوت الجديد وإلى ما يصدر عنه وإلى أناشيد الثورة الرائعة والقوية والقصيرة بنفس الوقت.
كان أبو صخر يكتب ما ينشر ويذاع بقلمه المتمرس والرشيق.. بكلام أمين يعبر عن الطلقة الفدائية الشجاعة من أجل تحرير فلسطين ودحر المحتلين..
توسع العمل في الإذاعة الفتية، والتحق عدد من المحررين والشعراء والكتاب أمثال الشاعر الكبير سعيد المزين "أبو هشام" ومحمد حسيب القاضي والمدرس يحيى رباح، وثلة جديدة من الأصوات الجديدة أمثال بركات زلوم وعبد المجيد فرعوني وعارف سليم ويوسف أحمد رحمهم الله، وبعد ذلك نبيل عمرو ويوسف القزاز ومريد البرغوثي ثم عزمي خميس ورسمي أبو علي، وبعد ذلك تم رفد الإذاعة بالمرحوم أحمد عبد الرحمن الذي تولى الإذاعة في درعا فيما بعد، وزياد عبد الفتاح الذي تولى وكالة الانباء الفلسطينية "وفا" فيما بعد..
كانت الإذاعة كحديقة الزهور بألوانها الجميلة، فكل واحد من العاملين فيها له لونه المميز وطابعه المختلف.
فالشعراء ينتجون الأناشيد الثورية.. كل بأسلوبه، "فتى الثورة" سعيد المزين صاحب نشيد "أنا يا اخي آمنت بالشعب المضيع والمكبل، وبلادي بلادي"، يختلف عن أسلوب أبو الصادق الحسيني الشعبي واللهجة العامية يخاطب بها الصغير والكبير في شعبنا الفلسطيني مثل "غزة يا غزتنا يا مكوفلة بالنار، وباسم الله وباسم الفتح"، وأسلوب محمد حسيب القاضي صاحب "سنوا عظامي سنوها سنوها سيوف وعبوني قنبلة مولوتوف، ويا جماهير الأرض المحتلة وغيرها".
والكتاب لهم أسلوبهم المختلف أيضا، ولكن ايضا كان الجميع يسلك درب المعلم والأستاذ فؤاد ياسين "ابو صخر"، وهو الجملة القصيرة والرشيقة التي تريح المذيع والسامع في نفس الوقت، وخاصة ما كان يطلق عليه في البداية المنطلقات الثورية بجملها القصيرة ومعانيها الكبيرة.
أما الملحنون فحدث ولا حرج.. فهم عباقرة زمانهم سواء منهم الفلسطينيون أم المصريون بمصاحبة المايسترو أبو صخر "فؤاد ياسين" الذي كان يتابع كل شيء من القصيدة إلى اللحن إلى الكلمة إلى الأداء إلى صوت المذيع وكيف يخرج الكلمة وينطقها ليتلقاها المستمع بوضوح كامل.
أما المذيعون الأوائل فكان لكل واحد منهم نكهته الخاصة وصفها القائد صلاح خلف "أبو إياد" قائلا: أنتم كالفاكهة اللذيذة، ففلان كالتفاحة، وفلان كالموزة، وآخر كالأجاصة، ولما توقف عند زميل ولم يصفه فسأل المذيع الأخ أبو إياد قائلا: وأنا لم تذكرني.. قال مداعبا: أنت كالخيارة، وضحك الجميع على نكتة القائد الشهيد.
"صوت العاصفة".. إذاعة أنشئت من لا شيء ولكن بعبقرية المرحوم الأستاذ فؤاد ياسين "أبو صخر" كانت كل شيء.. بأصوات مذيعيها القوية وتفانيهم وعدم ذكر أسمائهم.. وبشعرائها المبدعين الذين طرزوا أروع الأشعار ولحنها كبار الملحنين التي ما زال صداها يصدح حتى الآن في أفق الإعلام الفلسطيني والثوري العربي.
صوت العاصفة.. صوت فتح.. صوت الثورة الفلسطينية.. مدرسة الإعلام الثوري خرجت الكبار الكبار وودعت الكثيرين منهم شهداء في سبيل نشر الكلمة الأمينة المعبرة عن الطلقة الشجاعة، والعجيب ان المواطن العربي في شتى أقطاره عندما كان يتابع هذه الإذاعة، يستمر في الاستماع حتى للبرنامج العبري الموجه إلى المحتلين رغم أن هذا المواطن العربي لا يعرف اللغة العبرية التي كان يقوم بها عدد من الاخوة المناضلين من فلسطين المحتلة عام 1948، أمثال عماد شقور ومكرم يونس وحمدان بدر.. وأيضا كان المواطن العربي يتابع الشيفرات الموجهة إلى المقاتلين الفلسطينيين "الإشارات" دون أن يعي معناها وكان يؤديها غالبا الأخ المناضل عبدالله حجازي وبقية المذيعين.
تمر ذكرى "صوت العاصفة" في فترة تمر بها القضية الفلسطينية بحالة من التحرك الشعبي الرائع وخاصة في عاصمتنا المحتلة القدس الشريف في مواجهة مستمرة لكنس الاحتلال من مدينتنا المقدسة إلى الأبد.
فها هو شعبنا البطل يواجه بصدوره العارية وشبابه وصباياه وبأطفاله ونسائه وشيوخه بكل جرأة وإيمان بحتمية النصر واقامة الدولة الفلسطينية المستقلة بعاصمتها القدس إن شاء الله.
خمسة وخمسون عاما تمر على انطلاقة إذاعة فتح بأناشيدها الثورية ومنطلقاتها وأصوات مذيعيها التي ما زال صداها يتردد في ارجاء فلسطين والعالم العربي بل الكيان الصهيوني، فتحية لمن استشهد منهم.. وتحية للذي ما زال يعمل لينطلق الصوت من جديد إن شاء الله من قلب عاصمتنا الأبدية من القدس المحررة.
يرونه بعيدا ونراه قريبا.. وإنا لصادقون..
mat