لنحوِّل التهديد إلى فرصة سوياً
نشر بتاريخ: 2020-07-16 الساعة: 10:20بقلم: الدكتور سعيد صبري*
اعتمدت دول العالم منذ شهر آذار المنصرم على سياسة واضحة ترتكز بالأساس على مراجعة كافة الأنظمة والقوانين العاملة لديها لتنظيم الحياة الاقتصادية خلال أو بعد أزمه كورونا، وأطلق عليها النظام الجديد "العالم بعد كورونا". فقد اعتمدت الدول على تقليل نفقاتها العامة واعادة هيكلة مؤسساتها واستصدار قوانين وسياسات جديدة تتعامل مع الحالة التي فرضتها كورونا على المجتمعات أجمع.
فالقطاع الخاص والاقتصاد العالمي يعانيان من حالة انكماش حسب مؤشرات أعلن عنها قبل أيام من قبل مؤسسات دولية كصندوق النقد الدولي الذي أعلن أن اقتصاديات الدول العظمى انخفضت بين 0.7% الى 1.% كالولايات المتحدة الأميركية, بينما في الاتحاد الأوروبي انخفضت مؤشرات النمو الاقتصادي الى 1.4% , وانخفض ايضا النمو في دول الخليج العربي ليصل الى 0.9% , بينما ارتفع النمو الاقتصادي في الصين ليصل الى 1.7% .
فبادرت دول العالم قاطبة باعادة هندسة بيوتها واعادة ترتيب أوراقها وتسديد الثغرات التى أحدثتها جائحة كورونا والانطلاق نحو عالم جديد مدعمين اقتصادياتهم بمنهج نوعي جديد يعتمد على نظرة استراتيجية نوعية مميزة وعلى مدار الخمس السنوات القادمة مواجهين التزايد بأعداد المصابين بتعزيز الاقتصاد.
لقد أعلن الجهاز المركزي للاحصاء قبل عدة أيام أرقام وتوزيعات الشعب الفلسطيني، ومن الواضح أن الشعب الفلسطيني الذي يتوزع بين العالم ويشارك باقتصاديات ونهوض العالم ، لم يجد القوانين والانظمة المحلية أداة للإغراء لعودة حوالي 6 مليون فلسطيني موجودين بدول للاستثمار في الوطن ، كما انه من الملفت للنظر بارقام جهاز الاحصاء ان المجتمع الفلسطيني مجتمع فتي قدر نسبة الافراد من الفئة العمرية (0-14سنة) بما نسبته 38% من عدد السكان، وهذه فرصة للاستثمار في الأجيال القادمة, كما قدر جهاز الاحصاء المركزي ان عدد سكان المنطقة المستهدفة بالضم هي عبارة عن 112 الف نسمة موزعين على وسط وشمال وجنوب الضفة الغربية المحتلة . كما تم الاعلان ان النساء الفلسطينيات يعتبرن أعلى نسبة عاطلين عن العمل بالعالم بالنسبة لعدد السكان .
أما في حالتنا الفلسطينية الداخلية فلم نشهد إلا حزما من القرارات او التوجهات "كحلول" ، التي لم تدرس بعناية كافة من قبل الجهات ذات التخصص، وبالتالي الأثر الذي أحدثته كان محدودا ولا يلبي احتياج المواطنين أينما وجودوا, ومن اعتقد ان هذه الجائحة التي عصفت بالعالم انتهت فقد أخطأ التقدير ، والحكم ، والنتيجة . فالجائحة باقية لفترة طويلة ، ونحن بحاجة ماسة الى اعادة هندسة السياسات المالية والعمالية والاقتصادية بما يتناسب مع المرحلة الجديدة التي نعيشها ، فالمواطن الفلسطيني لا يبحث عن برامج لأشهر او لمرة واحدة فقط لا غير لكي يعيش افراد عائلته التي قد تزيد على سبعة افراد او أكثر بقيم مالية متواضعة تمنح من أي جهة من الجهات الرسمية او غير الرسمية، فالمواطن الفلسطيني يبحث عن استقرار في وطنه على ارضه وهذا يتم فقط باطار استراتيجي ممنهج، ومن الواضح انه يوجد ارباك اقتصادي وزعزعة واضحة بالثقة بين المواطن واصحاب القرار, وبالتالي يجب السعي نحو "رفع المنحنى الاقتصادي مقابل تسطيح المنحنى الصحي" ويجب ان تكون هذه هي رسالتنا. وادراكا منا ان المسؤولية لا تقف عند اصحاب القرار في الحكومة فقط ، فانني أقدم الاقتراحات التالية كمساهمة لإغناء العمل :-
أولا: اعادة ترتيب البيت الفلسطيني الداخلي بتقليل عدد المؤسسات العامة والوزارات، ودمج تلك المؤسسات العامة بأخرى لكي يقلل من المصاريف الدورية ويتسنى ضخ دموية جديدة في اطار تعزيز البقاء وبناء الوطن .
ثانيا: اعادة بناء استراتيجية وطنية اقتصادية وجعلها واضحة المعالم تتعاطى وتحاكي الحالة اليوم وما بعد كورونا وبشراكة مع القطاع الخاص . فالنمو الاقتصادي يعتمد على ثلاثة اضلاع اساسية: الضلع الاقتصادي، والضلع الزراعي (محوري)، والضلع الخدماتي.
ثالثا: "الضلع الاقتصادي" بمعنى العمل على تذليل الصعوبات بالتصدير والاستيراد للمنتجات التي تدعم ديمومة الاقتصاد وذلك بإعفاء المصدرين الفلسطينيين من تكلفة ورسوم التصدير واستيراد المواد الخام غير المتوفرة محليا بدلا من دفعها للجهات الفلسطينية والاسرائيلية واعفاء المشاريع الصغيرة من الضرائب لمدة عام كامل، والعمل على انشاء حاضنات صناعية واقتصادية لاستقطاب ذوي التخصص ودعمهم "تدريبيا واداريا" واحتضان "الريادة الصناعية" . كما أنه المطلوب التحول نحو "الاقتصاد الرقمي" وتشجيع الاستثمار في البنية التحتية الفلسطينيه ، العمل على مراجعة شاملة للانظمة والقوانين المنظمة في المجتمع الاقتصادي ، دعم المبادرات الاقتصادية بتوفير بيئة اقتصادية نوعية ، التحول للاقتصاد الرقمي يجب أن يكون هدفا مميزا لتحقيقه . فدول كثيرة كاستونيا مثلا تميزت باستقطاب الشركات والمبادرين لتسجيل شركاتهم وتوفير بيئة لهم رقمية .
رابعا : " الضلع الزراعي" بمعنى أن انتاجية دونم الارض بمناطق فلسطينية أقل انتاجا من مثيلتها بالجزء الشرقي من نهر الاردن والجزء المسيطر عليه الاحتلال ، وعليه يجب أن نسعى جاهدين على رفع نسبة انتاجية الارض الفلسطينيه ، " ان نأكل مما نزرع" هذا هو الأساس لخلق منظومة زراعية تعتمد ببعدها الاستراتيجي على تحقيق الأمن الغذائي الفلسطيني . يجب ان نتعلم من التجارب الناجحة لكثير من الدول المحيطه فمثلا: استطاعت تركيا ان تحقق النظام الامن الغذائي للافراد بتشجيع الزراعة وذلك بتوفير اراض زراعية ومصادر مياه وأسواق محلية عالمية لمنتجاتها ، النموذج التركي لا يختلف عما تسعى اليه بعض الدول العربية الان. كما أود التذكير بما جاء في مقالتي السابقة أن القطاع الزراعي الفلسطيني بحاجة الى قنوات تصديرية والمسؤولية الملقاة هنا يجب أن تكون مسؤولية مشتركة بين القطاع العام ممثلة في وزارة الزراعة والخارجية ومؤسسات القطاع الخاص في فتح أفاق لأسواق زراعية من خلال السفارات الفلسطينية العاملة في بلدان نوعيه مثل: تركيا ، او/و اندونسيا ، وماليزيا وكثير من دول اسلامية وعربية بحاجة ماسة لمنتجات فلسطينية زراعية مميزة "كالتمر" او ما يسمى "بالذهب الفلسطيني". كما نؤكد على اهمية العمل على انشاء مركز فلسطيني لتوزيع الحاصلات الزراعية في الاسواق الاوروبية او الخليجية ليصبح عنوانا تجاريا للمنتجات الزراعية ، ووسم المنتجات الزراعية الفلسطينية , واقامة مصنع سماد طبيعي، ومراكز مبردة حافظة للتمور.
خامسا: "قطاع الخدمات", يعتبر قطاع الخدمات في فلسطين الاكبر، وقد تعرض هذا القطاع خلال فترة الجائحة الى الكثير من الاهتزازات لاعتماده بالاساس على الخدمات المباشرة للجمهور في كافة مناحي الحياة ، وربما هذا القطاع الاكثر عرضة لاثر الجائحة قد يتفاوت بالطرق المختلفة في شكل ومضمون الحلول المقدمة له، فمثلا: قطاع السياحة وهو أهم قطاع في الخدمات يجب العمل سريعا على خلق برامج وطنية معتمدين على المواقع التاريخية والاثرية الموجودة بفلسطين وتفعيل السياحة الداخلية بين محافظات الوطن وايضا السياحة العلاجية ، وعمل برامج تكنولوجية لزيارة فلسطين عبر "الشبكة العنكبوتية" ، والتعرف على معالمها السياحية والدينية والتاريخية، ومن المؤكد ان الابداع الفلسطيني بحاجة الى بيئه حاضنة لها فقطاع الخدمات بحاجة الى بنية تحتية قوية وهذا يجب أن تقوم الحكومة بتوفيره لتعزيز القطاع. العالم يتحول اليوم نحو قطاع مصرفي رقمي ، وقطاع السياحة ايضا، وما زلنا نحن نبحث عن سبل ووسائل تغطية الثغرات للقطاعات متأخرين في مواكبة العالم نحو التغيير.
خامسا: القدس : بينما يعيش المواطن المقدسي تحديات الهوية والاحتلال ، تخرج العديد من المبادرات المميزة، فبين التحدي والابداع ، تجد العديد من المبادرات النسوية الفلسطينية بالمدينة المقدسة التي بحاجة الى الدعم والتطوير ، مبادرات ريادية في مجالات كتصميم الورود، والصناعات الغذائية النوعية، و المأكولات الشعبية، ومبادرات تكنولوجية ، وعلاجات البشرة وغيرها , ومع تلك المبادرات الفردية ينمو الاحتياج لاحتضان تلك المبادرات ودعمها بخلق "عنوان اقتصادي"مثلا "صندوق تمويلي" في المدينة المقدسة ، والعمل مع المؤسسات العاملة محليا من حاضنات اعمال ومؤسسات مجتمعية أخرى على تطوير نماذج دعم من خلال المؤسسات المانحة ، فلا يعقل ان يتوفر برامج لدعم للمبادرات بمناطق الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة يستثنى منها مدينة هالقدس .
سادسا: القطاع المصرفي والقروض للمشاريع الصغيرة , مع استمرار سياسة الاغلاق للحفاظ على صحة المواطن ، يبقى الباب مفتوحا على دخل المواطن الفلسطيني ـ وكيفية قيامه بتلبية التزاماته المتراكمة كنتيجة حتمية لتوقف عجلة الاقتصاد- بينما يعاني اصحاب المصالح التجارية في كل من الضفة الغربية المحتلة من نقص السيولة وزيادة المصاريف ، وننتظر حلولا خلاقة من سلطة النقد لإيجاد برامج حقيقية للتسهيل على المواطن . ان النموذج الناجح في الاقتصاديات الاقليمية والعالمية الذي اثبت نجاحه هو فتح المجال لاقراض بسقف محدد للمشاريع الصغيره دون فوائد، ومع اقتراب الحكومة وسلطة النقد بالاتفاق مع بنك التمنية الاسلامي بالحصول على "قرض حسن" يقدر ب 25 مليون دولار فإنني أدعو الجهات الرسمية الفلسطينية للعمل سريعا على عكس القرض لصالح القطاعات المتضرره لكي تستمر عجلة الاقتصاد بالعمل ودون ان نفقد القطاع المشغل الاقتصادي "قطاع المشاريع الصغيره" , كما ندعو للعمل مع المؤسسات المانحة والبنوك على فتح نافذة اقتصادية لاستقطاب برامج داعمة لهذه الفئة المتضررة.
فلنبنِ وطنا يتميز بالعطاء ، وطنا يمنح الابداع ، وطنا يحتضن المواطن، فلتكن فلسطين عنوانا للتميز العالمي ببنية تحتية متطورة وقوانين وانظمة نوعية ناضجة.
*مستشار اقتصادي دولي – وشريك اقليمي وممثل لصندوق المبادرات- فاستر كابتل – دبي.
m.a