الرئيسة/  مقالات وتحليلات

إسرائيل على محك الجنائية الدولية.. "كاد المريب يقول: خذوني"

نشر بتاريخ: 2019-12-26 الساعة: 10:10

عبير البرغوثي ما إن أعلنت المدعية العامة لمحكمة الجنايات الدولية "فاتو بنسودا" عزمها فتح تحقيق في ارتكاب جرائم حرب محتملة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وما ينطوي عليه هذا التحقيق حال اجرائه من نتائج على أرض الواقع، إلا وانطلقت الإشادات الفلسطينية بالقرار، قابلها هجوم وامتعاض من الجانب الإسرائيلي تماماً وكأن مجرد النية والعزم على فتح تحقيق دولي يشكل انتصاراً لصاحب الحق المظلوم وخيبة أمل للاحتلال الظالم!.
لقد وقف الشعب والقيادة الفلسطينية سنوات وعقود ينادون الشرعية الدولية، يصرخون في كل المحافل لإيقاظ الضمائر الحية، رفعوا غصن الزيتون أمام العالم في مقر الأمم المتحدة منذ نحو خمسين عاماً، ورغم مرور السنوات والنكبات ما زالوا يؤمنون بخيار الحرية والأمن والسلام العادل والشامل، ودفعوا ثمن هذا الإيمان آلاف التضحيات من شهداء وجرحى ومعتقلين، وتعرضت منازلهم للهدم مرة تلو الأخرى، منازل وأحياء أزيلت عن قيد الحياة ليس لسبب إلا لتهجير أهلها، آلاف الدونمات صودرت وجرفت أراضيها وقتلت أشجارها واقتلعت من جذورها دون رحمة، ليس لسبب الا لخلق طريق التفافي لمستوطن تحميه بنادق جيش الاحتلال.
سنوات من الانتظار أمام أبواب منظمات الامم المتحدة، وحقوق الإنسان واليونسكو، من نيويورك الى جنيف، ومن لاهاي الى بروكسل، وفي كل ساحات الدعم والمساندة في كافة بقاع هذا العالم، نبحث عن نصر ونبحث عن أصدقاء ونبحث قبل كل شيء عن النزاهة الدولية لوقف العدوان وإنهاء الاحتلال، عشرات من السنوات لم تكن كافية لتفتح أعين بعض العالم على الحقيقة، عشرات الحروب التي خلفت الدمار والبؤس في كل مكان لم تكن كافية لوضع حد للتعنت والتعدي على حقوق الانسان الطبيعية في العيش بأمن وسلام في بيته وبين أشجار الزيتون في أرض السلام ملتقى الرسالات ومهبط الأنبياء من كل الديانات!
كحال النار في الهشيم اندلعت مواقف التأييد من الفلسطينيين وأحرار العالم لإعلان المدعية فاتو بنسودا، إنها أشبه بلحظة نصر تاريخية على الإنكار والغبن وإدارة الظهر لحقوق الانسان وحقوق المسكن وحقوق الأرض وحقوق الأشجار في فلسطين، إنها أشبه بصخرة عملاقة تهبط من السماء على صدر جرافة حاقدة تشق طريقها لاقتلاع شجرة كانت حتى الأمس القريب مصدر خير وظلت تتوارثها الأجيال منذ عصر الرومان في فلسطين، خبر حل كالصاعقة على من يراهنون بأن ضمير العالم قد مات وشبع موتاً تحت التراب، وغسلوا أيديهم من أهمية هذا الخيار لمواجهة سياسات الاحتلال وحصاره وحرمانه من غطاء الفيتوهات التي تحميه داخل مجلس الامن، ففي محكمة الجنايات لا توجد فيتوهات من هذا الصديق أو ذاك، توجد حقائق وقرائن تثبتها أو تنفيها شواهد الواقع من جرائم واعتداءات تخالف القانون الدولي، وهنا بيت القصيد وهنا ستبدأ أشكال جديدة من المعارك والتحديات.
هنا تبدأ معركة الملفات والتحضير والجاهزية للمواجهة القانونية ومعركة الاثباتات، معركة ربما يواجه الحق فيها أشكالاً جديدة من الطعن ومن التزوير ومن التهديد ومن سرقة الأدلة التي راكمها في ملفات التحضير للوصول الى هذه الساحة من المواجهة القانونية والدبلوماسية الدولية المفتوحة، ورغم كل ذلك فلسان حال الموقف الفلسطيني وعلى لسان قيادته يعلنها: نحن جاهزون منذ اتخاذ القرار بالانضمام للمحكمة، وعلى هذا الإعلان ستبنى المواقف بعد حين!
لقد أعربت المدعية العامة في إعلانها بأنها مقتنعة "بأن جرائم حرب ارتكبت بالفعل أو ما زالت ترتكب في الضفة الغربية بما يشمل القدس الشرقية وقطاع غزة" فهل هكذا قناعة مسبقة ستكون لنا أم علينا؟ واذا كانت قناعة مسبقة لإحقاق الحق لأصحابه الشرعيين وصحوة ضمير المحكمة الجنائية لإنصاف الفلسطينيين بعد هذه السنوات، كيف لنا ومن مختلف مكونات الكل الفلسطيني أن نحمي هذه القناعة من الآن وحتى تنتهي المعركة والحروب التي ستشتعل بسبب هذا الإعلان؟ كيف لنا أن نحافظ على هذا الإعلان نزيهاً وبعيداً عن الانحياز تحت ضغوط قد نعلم بها وأخرى قد لا نعلمها؟ لا سبيل إلا الالتفاف قيادة وشعباً في الداخل والخارج خلف الموقف الفلسطيني الرسمي حتى يقطف الفلسطينيون ثمرة تخدم قضيتهم العادلة وتفتح طريقاً لإنهاء الاحتلال بعد محاسبته على عقود من الظلم والانتهاكات.
ما أحوجنا كفلسطينيين الى استثمار هذا الإعلان وتتويجه بنصر في هذه المحكمة الدولية، نصر يستند الى طبيعة هذه المعركة الجديدة في ساحات المحاكم الدولية، إنها لحظة إطلاق العنان للإبداع القانوني لبناء أفضل جاهزية ممكنة لهذه الحرب الشرسة، تحالف رسمي وقانوني وإعلامي وشعبي عريض مع كافة أصدقائنا حول العالم، تحالف يستند لشهادات ووثائق تقلع عين الشمس، "وتسمع من به صمم" بأن هذا الشعب وهذه الأرض تعرضت وما زالت لانتهاكات وجرائم فاقت قدرة البشر على التصور، تعرضت لكافة أصناف التهديد والقتل والتدمير وما زال في القصة بقية، لقد امتلأت دفاترنا المدرسية بشهادات انتهاكات حقوق الطالب والمدرس والمدرسة، لقد امتلأت كشوف أطبائنا بعمليات البطش والاغتيال والتصفية خارج القانون لأطفال وشيوخ ونساء على الحواجز وعلى الطرقات، ليس لذنب إلا لأن قناصاً يستحكم في نقطة أمنية تبعد عشرات الأمتار لم يشعر بالأمان من تلك الفتاة او ذاك العجوز العابر للحاجز، طلقة أردته شهيداً، ارتقى للسماء وحتى الآن لم يقدم لذلك القناص حتى كلمة لوم أو حساب شديد!
امتلأت صحفنا ووسائلنا الإعلامية بآلاف الصور والشهادات على محاولات الاحتلال إسكات صوت الحق، وإطفاء عين الحرية، اخترقت رصاصاته عين ورأس ويد ذاك الصحفي في الميدان، لكنها لم تغلق عيون الاعلام وأقلام الصحافة عن تعريته أمام أعين العالم، فقدنا عينا ولكنا بقينا المبصرين وكان هو الفاقد لقدرته على الابصار، فهو لا يرانا الا من عين القناص، ونحن نراه بعين الحق الشاهدة على انتهاكه للقوانين وكافة حقوق الانسان!
ليس غريباً أن ينتفض أصدقاء الاحتلال على هذا الإعلان، لأن لحظة الحساب تأخذ معها الفاعل ومعاونيه، وليس أقرب على ذلك من تصريح وزير الخارجية الأميركي "نحن نعارض بحزم هذا الأمر وأي عمل آخر، يسعى لاستهداف إسرائيل بطريقة غير منصفة"، ويضيف "لا نعتقد أن الفلسطينيين مؤهلون كدولة ذات سيادة، ولهذا هم ليسوا مؤهلين للحصول على عضوية كاملة أو المشاركة كدولة في المنظمات أو الكيانات أو المؤتمرات الدولية، بما فيها المحكمة الجنائية الدولية".
أخيراً، قد لا يكون هذا الاعلان نهاية كل شيء، وقد لا يكون الشعرة التي ستقصم ظهر الاحتلال وتحرر فلسطين، ولكنه اعلان يحظى بترحيب فلسطيني عميق، ترحيب قال عنه الرئيس محمود عباس "هذا يوم تاريخي، والآن أصبح بإمكان أي فلسطيني أصيب جراء الاحتلال أن يرفع قضية أمام المحكمة الجنائية الدولية"، موضحا أنه بعد أربع سنوات من العمل "وتقديم كل ما يلزم حول جرائم الاحتلال المرتكبة بحق شعبنا في الأراضي الفلسطينية المحتلة، صدر اليوم القرار لأن المحكمة كانت تتابع الحيثيات والقوانين والقضايا وتدرسها".
إنه بداية مرحلة جديدة لمعركة سياسية لها ما قبلها وسيكون لها ما بعدها، فلن تبقى الخارطة السياسية على حالها اذا ما قدر لهذا الاعلان ان يرى النور بكل نزاهة، والتعاون سيكون ملحمة سياسية وقانونية ودبلوماسية شرسة مع الاحتلال في المحكمة وكافة المحافل الدولية ذات العلاقة، ولعل ما يميز هذه المرحلة عن نظيرتها من مراحل النضال الفلسطيني ويجعلها أكثر ضراوة، فقدان دولة الاحتلال لميزة الحماية بالفيتو لأن التحرك داخل المحكمة وبعض الهيئات الأخرى لا يخضع للفيتو الأميركي الذي تفننت واشنطن في استخدامه عبر سنوات الصراع والمواجهة في المحافل الدولية في عديد المناسبات.
ومع ادراكنا بأننا ما زلنا على عتبة النوايا، فما زال الطريق طويلا للوصول الى النتائج والقرارات، لكن هذه المواقف المبكرة تعكس صورتين، الأولى لصاحب الحق الذي لا يخشى من أي تحقيق، بل وينادي به مرحبا ومطالباً منذ سنوات، فيما الطرف الآخر ولسان حاله "كاد المريب يقول: خذوني"، لأنه أعلم الناس بضعف موقفه، بضعف شهاداته بضعفه أمام النور اذا قدر للنور ان يشق عتمة الليل. انها ام المعارك الدبلوماسية والقانونية، ونحن جاهزون وكل التوفيق لطواقمنا في معركة القانون!.

anw

التعليقات

Developed by MONGID | Software House الحقوق محفوظة مفوضية الإعلام والثقافة © 2024