الرئيسة/  مقالات وتحليلات

قضية (إسراء غريب) نموذجاً...استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بين التضليل والتهويل

نشر بتاريخ: 2019-09-08 الساعة: 09:52

عبير البرغوثي باتت وسائل التواصل الاجتماعي عابرة للقارات وكاسرة للحدود ولا تعيقها خطوط العرض والطول، ولا يكاد منزل على وجه الأرض الا وله تواصل بهذا الشكل أو ذاك مع أي من وسائل أو منصات التواصل الاجتماعي، بوابة عبور لخليط من القيم والثقافات والاهتمامات وتنوع الاستخدامات، ويزداد تأثيرها مع التقدم التقني والفني والإعداد عالي المستوى لخدمات وأشكال وسائل التواصل سواء بفعل اشتداد التنافس بين مزودي ومطوري تلك الوسائل، أو من خلال التنامي المطرد لأعداد المشتركين واللاعبين في ملاعب منصات التواصل الاجتماعي من حسابات حقيقية أو من خلال التخفي وراء حسابات وهمية.
ونحن في المجتمع الفلسطيني لسنا بمعزل عن هذه المنصات وعن تداعيات استخدامها في ظل مؤشرات احصائية مهمة وفق بيانات الجهاز المركزي للاحصاء الفلسطيني فقد تضاعف عدد المشتركين في الانترنت فائق السرعة ADSL بنحو 200 مرة نهاية عام 2018 مقارنة بعام 2010، اضافة لهذه المعطيات فقد اشارت بيانات نفس المصدر الى أن نحو 96% من الأسر الفلسطينية تمتلك خط هاتف نقال واحد على الأقل ضمن الأسرة، وهذه بيئة خصبة لانتشار استخدام الاجهزة الذكية وتطبيقاتها بين شرائح متسعة في المجتمع الفلسطيني في ظل اختلاف المستويات الفكرية والثقافية والاجتماعية وبالتالي الغايات والأهداف من وراء استخدام تلك المنصات من قبل هؤلاء المستخدمين.
هذا الانتشار يدفع للتساؤل عن مدى جاهزيتنا كأفراد وأسر ومؤسسات من حيث الوعي المجتمعي للتعامل المسؤول بأخلاقية واحترافية عالية مع افرازات ثورة التقنيات وثقافة وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، وسائل التواصل التفاعلية أو الرقمية وغيرها من المسميات، فالتحولات ليست سهلة، والاستخدامات ليست محددة ومحصورة، وقواعد الاستخدام مفتوحة، سواء مباشرة أو بالتحايل على القيود، انه فضاء مفتوح لكافة الاحتمالات، وللأسف فإن شروط الدخول لهذا الفضاء لا تعدو عن كونها امتلاك جهاز نقال قادر على الاتصال بالشبكة العنكبوتية، ومن ثم تبدأ رحلة المشاركة، وما قد تشملها من مشاركات للتشويق أو التشويش ..!
واذا كانت المجتمعات المستقرة والمستقلة تعاني من الجانب السلبي لاستخدامات وسائل التواصل الاجتماعي القديمة أو الحديثة منها، فما هو الحال في مجتمع يعاني من العديد من التحديات وفي مقدمتها ارتفاع معدلات الفقر والبطالة وتداعيات و انعكاسات استمرار الاحتلال على مختلف مناحي الحياة؟!
واقع ونماذج وأحداث شهدتها الاراضي الفلسطينية خلال الايام والاسابيع الماضية ومن بين ابرزها ما حدث مع الضحية "اسراء غريب" من بداية الحادثة المؤسفة وحتى نهايتها المفجعة بكل ما في الكلمة من معنى، حادثة قد تشابه غيرها لكنها تستدعي التوقف والتأمل والمراجعة للتعرف على مستوى الوعي العام لطبيعة وكيفية استخدام وسائل ومنصات التواصل الاجتماعي في القضايا العامة، وهل تأسرنا العاطفة والانفعال قبل التحقق والتأني والتروي على بناء المواقف وتشكيل الآراء والترويج لها؟! وكيف تكون المنصات لخدمة قضايانا وليست مجرد سباق لمن نشر أولاً؟
لكن كيف تحولت الغايات النبيلة لمنصات التواصل الى نقمات وسلبيات؟ كيف بات تأثيرها على حياتنا الفلسطينية؟ وهل وسائل ومنصات التواصل مصادر للأخبار والإعلام وتشكيل الرأي العام أم دورها غير ذلك؟ وهل عززت التواصل أم أنها ساهمت في التفكيك وإذكاء نيران التراشق وتحولت من التواصل الى مستويات من التناحر؟ هل قاربت بيننا ام سرقتنا من بعضنا البعض؟ هل استنزفت أوقاتنا وسيطرت على عقولنا واهتماماتنا؟ وهل أصابتنا بمرض جديد اسمه الشلل الناجم عن وسائل ومنصات التواصل الاجتماعي؟ وباتت اعراض الخرس والتشتت الاسري وصعوبات النطق بين الأزواج والزوجات والأبناء تسيطر على أسرنا؟! وهل نقول لبعضنا كل ما ينبغي ان نتشارك به مباشرة أم اننا نتواصل من خلال هذه المنصات داخل البيت الواحد؟ أم أن ما خفي اعظم؟
من ينظر لواقع شبكات ومنصات التواصل يكتشف دون عناء كبير أنها اشبه ما تكون بملعب مفتوح لكافة الالعاب وكافة اللاعبين ومن مختلف الاعمار والأجناس والأخطر من شتى انحاء العالم، ملعب ينظمه القانون العام، ويتحكم في تشغيله وتوجيهه شروط المستخدمين وقوانينهم انفسهم، فهم من يوافقون ومن يحجبون وينشرون البوستات والتغريدات والتعليقات والآراء والمواقف على صفحاتهم وحساباتهم، تتشكل الحملات والهاشتاغات وفق قواعد خاصة بهم، وتتداخل ادوار التواصل التفاعلي مع خلق الاخبار وتناقلها عبر المنصات دون تمحيص او توثيق للمصدر، وهذا ما يدفع في أحيان كثيرة ان تطفو على السطح بين الحين والآخر مواضيع يختلف عليها داخل الاسرة الواحدة، البعض ينفخ بها كقضية عامة والآخر يراها ذرا للرماد في العيون، وحرفًا للاهتمام عن القضايا الاصلية والحيوية للمجتمع التي ينبغي ان ينبري لها كافة الناس وجميع اصحاب الحسابات، ويتبادر لذهن المتابع عشرات الاسئلة حول المحركين للحسابات، وما هي قواعد وضوابط النشر "واللايك والشير"، ومن يصنع الاولويات، ومن يدفع بهذا الموضوع او غيره ليكون "ترند" كما يسميه البعض، لكن الثابت بين كل هذه التساؤلات موضوع مهم يتمثل بغياب ميثاق شرف وطني لأخلاقيات التعامل مع منصات التواصل، ولذلك فإن الملعب مفتوح للغث والسمين، ولذلك نواجه الخسائر الناجمة عن التحشيد والتخندق خلف أحداث لا تستند لأدنى درجات التحقق عن مصادرها وغايات تداولها، لكن دون تناغم للرقابة الفردية ذات الاحساس العالي بالمسؤولية المجتمعية والوطنية مع الدور المؤسساتي للتوعية والتوجيه والمتابعة فإننا سنكون معرضين لخسائر فادحة وغير قابلة للتعويض، فالحفاظ على المصداقية وتوخي اقصى درجات الدقة والتدقيق والحذر قبل التعليق او النشر تشكل شرطاً مهماً لمصداقية هذه المنصات.
للاسف مع تنامي اعداد المستخدمين وتوفر واتاحة خدمات التواصل لمختلف الاجيال والاعمار، وتهاون الاسر في شروط الاستخدام، خاصة وان بعض الاسر (الوالد والوالدة) تتعامل مع اتاحة الهاتف النقال للاطفال من باب التسلية وإبعادهم ولو لبعض الوقت عن كاهل الآباء، خلق مناخاً سلبياً للانفلات ونشوء مجتمعات وصداقات افتراضية، لا ينجو من آثارها الا من رحم ربي، ومن هنا تنشأ المخاطر والزلازل الاسرية، وتنشأ الاسرار والمخاطر والازمات بين الابناء وبين الازواج، وعلينا التذكر بالحكمة القائلة "إنّ النار تستعر من مستصغر الشرر!" فتدارك الامور في بداياتها بالتنظيم والشفافية الاسرية قد تجنبنا زلازل نحن في غنى عنها في قادم الايام، اضافة الى ان التغلب عليها او التراجع يكون اصعب كلما تعمقت الفجوة بين مكونات الاسرة واتسعت فجوة العزلة والتباعد بين افراد الاسرة نفسها، فالكل مشغول بالتواصل مع عالمه الافتراضي ولا يجد وقتاً للتواصل مع من يسكن ويعيش معه، وهذه بداية انفلات الانتماء وبداية اغتراب الفرد داخل بيته، وهذا سيكون له انعكاساته على علاقة الفرد بالمجتمع وعلاقته بقضاياه وبالتالي فقدان الفرد للقدرة على التواصل الايجابي مع محيطه لانه ابتعد كثيراً في حالة الاغتراب! والخاسر من كل ذلك نحن جميعا!
ويشكل التواصل من خلال شبكات ومنصات التواصل سلاحاً ذا حدين، فمع انه أتاح بوابة لمساندة الأفراد لبعضهم في ظروف معينة، الا انه شكل تهديداً لموضوع الخصوصيات والبيانات الفردية، فما كان بالامس القريب نطاقاً خاصاً لحياة الانسان ودائرة لخصوصيته وحياته، أصبح اليوم في متناول الجميع، بل أنه بات تحت تهديد كبير لتتبع خصوصياته وكل متعلقاته بمجرد ان يكون على اتصال مع اي من شبكات او قنوات التواصل، وبات البعض هدفاً للاستغلال والابتزاز والتعرض للعنف الالكتروني، وتعتبر الفئات المهمشة والضعيفة والنساء من أكثر الفئات عرضة لهذا التهديد، والأسر والجهات المختصة ذات مسؤولية كبيرة لمتابعة تصرفات أبنائها وافرادها وطرق تعاملها مع شبكات ومنصات التواصل، ومتابعة ثقافة ما ينشر وما لا ينشر من قبل افرادها، فالبعض للأسف لا يبقي اي شيء الا ويشاركه على المواقع، من نوم ومأكل ومشرب وهدايا وزيارات، انها نشر لكافة تفاصيل الحياة إنها ابحار دون تحديد نقطة توقف او تحديد للاتجاه، سواء بحسن نية او بهدف الشهرة وزيادة عدد المتابعين على أمل ان يكون نجم الاهتمام، وفي سبيل ذلك قد تنحرف الأمور عن الطريق السليم، وتصبح أدوات وقنوات التواصل نافذة لكشف أسرار البيوت، وهتك خصوصيتها واصطياد الفرائس بالتهديد والابتزاز من قبل ضعاف النفوس، وعندما يستفحل الضرر لا تنفع اجراءات التدخل بعد تأخر التوقيت، مع التأكيد أن الاخبار غير المؤكدة او الاشاعات لا سيما التي تتعلق بحياة الافراد تنتشر كما النار في الهشيم، وهذا ليس بالامر الجديد، فقد عرفته المجتمعات منذ القدم، لكن وسائل التواصل اتاحت منصات واسعة اختصرت الزمن والجغرافيا امام انتشار تلك الاخبار في زمن قياسي ووصولها الى نقاط جغرافية في سرعة فائقة، وما قد يصاحب قيام المتلقين لتلك الاخبار بقرارات متسرعة وانفعالية للرد، سواء حينما يتعلق الامر بقضايا الشرف أو الوطنية أو غيرها من القضايا المفصلية في المجتمع، وعلينا التذكير أن البطولة ليست بسرعة نشر ما يقع بين اليدين من اخبار لكن البطولة الحقيقية في نشر ما يفيد المجتمع ويعزز من صموده وتماسكه، فليس كل ما نعرفه او نسمعه ينشر، وليس كل ما نحتفظ به ينسى أو يموت مهما تقادمت الايام!
انها قضية مهمة لكافة الاضلاع المشتركة بها، فالجهة المعنية بتنظيم هذا القطاع تتحمل مسؤولية كبيرة في وضع القوانين والاجراءات والتعليمات والعقوبات وتنفيذ دورها ومهامها دون كلل او ملل ودون محاباة او تمييز، وعليها اجراء التقييم واستخلاص الدروس والعبر واشراك كافة المعنيين على أساس الشراكة في المسؤولية المجتمعية عن حسن استخدام تلك الوسائل والمنصات بما يخدم المجتمع وافراده، انها مسؤولية الاسرة (الآباء والامهات) على حسن المتابعة والرقابة من البدايات باعتبارهم اصدقاء لابنائهم ويخصصون الوقت الكافي للتواصل معهم وعدم الانشغال عنهم على حساب أدوارهم في التربية والتنشئة والبناء، فترك الابناء للفراغ يخلق جيوشاً من غير المبالين وغير المدركين لمخاطر وسائل التواصل مهما كانت.
نحن بحاجة لعملية مراجعة بمشاركة كافة الجهات ليس من باب المنع او التقييد، لكن من باب تعزيز الاستثمار الامثل للايجابيات التي يمكن تحقيقها على حساب الحد من الاستخدام السلبي، مراجعة تنظر الى العوامل التي ساهمت في الانحراف عن الغايات النبيلة وساهمت في انتشار انماط سوء الاستخدام، مراجعة تنظر الى لغة الاستخدام والنقاشات ومدى مهنية الحوارات باعتبارها مقدمة للانتقال من النقاشات الجادة الى مناكفات سلبية بما تحمله من انتشار ليس للمواضيع السلبية وانما لولادة لغة لا تليق بالمجتمعات المتحضرة، وتخلق ثقافة من محتوى جديد، تكون بيئة مناسبة لولادة وتفشي كافة الامراض الجديدة!
يبقى ان نشير الى أن عملية المراجعة من الضرورة بمكان أن تؤدي إلى ولادة واطلاق وثيقة شرف وطنية على شكل ضوابط عامة لمن يستخدمون وسائل ومنصات التواصل الاجتماعي، ميثاق شرف يحكم الغايات ويعزز ثقافة الصدق والتحرز من نشر الاخبار والمواضيع غير الصحيحة او غير المؤكدة او الكيدية او الاشاعات، ضوابط لتعزيز الوعي بأهمية ودور ومخاطر وسائل التواصل وكيفية التعامل معها وان تكون ضمن المنهاجين المدرسي والجامعي وحتى ضمن برامج المؤسسات الاسرية، ينبغي ان نصل معاً الى قناعة وممارسة نلتزم بها جميعاً تتمثل بعدم نشر الرسائل التي لا نعلم مصدرها مهما كان موضوعها، فالتحقق والتدقيق والحرص على الموضوعية والنزاهة قيم تضمن عدم وقوعنا فيما لا تحمد عقباه!

anw

التعليقات

Developed by MONGID | Software House الحقوق محفوظة مفوضية الإعلام والثقافة © 2024