الرئيسة/  مقالات وتحليلات

الأم "ميركل"

نشر بتاريخ: 2018-12-13 الساعة: 08:50

عبير بشير فقط الكبار،هم الذي يرسمون نهاياتهم كما يريدون،ولا يتركونها للصدف لتقوم برسمها. فقد قررت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل،أن تخرج من الباب الكبير،قبل أن يعلن حزب الإتحاد المسيحي الديمقراطي وصندوق الاقتراع نهايتها.

ورسمت ميركل أن يكون خليفها في رئاسة الحزب-امرأة أيضا- أسمها أنغريت كرامب كراينباور،وهي أحد حواريي ميركل،التي فازت في انتخابات الحزب مؤخرا،ومسحت الدموع عن عيني ميركل عندما اختتمت خطاب الوداع المؤثر بعبارة: «كان العمل معكم مصدر سعادة وشرف عظيم لي».

فضل مندوبو حزب الإتحاد المسيحي الألف ،الذين اجتمعوا لاختيار خليفة لميركل،التي أعلنت في وقت سابق أنها لن تترشح مرة جديدة لرئاسة الحزب،في قاعة داخل معرض هامبورغ .إختيار كرامب كراينباور،التي تشتهر كذلك بـ"إيه كيه كيه" على المحامي الذي يعمل لحساب رجال الأعمال والشركات، فريدريش ميرز . وجاء فوز إيه كيه كيه،الرئيسة السابقة لولاية سارلاند والأمينة العامة لحزب الاتحاد المسيحي، وذات الاهتمام الأكبر بالقضايا ذات البعد الإنساني، بينما يتبع ميرز توجهات تحررية وأكثر ودا إزاء مجتمع الأعمال.وقد ورثت إيه كيه كيه من ميركل تأييدها لقضايا الهجرة واللجوء، بينما يميل ميرز نحو ما يمكن وصفه بسياسات الهوية. وفي الوقت الذي تفضل إيه كيه كيه التوصل لتسويات وحلول وسط، يسعى ميرز لإظهار القوة.

صعد نجم ميركل السياسي في أواخر ثمانينيات القرن الماضي وأوائل تسعينياته، كانت الفكرة الاتحادية وأذرعها التطبيقية،قد اشتد عودها وأضحت قوة يعتد بها دوليا، اقتصاديا بالدرجة الأولى وسياسيا وأمنيا،ثانيا .وعاصرت ميركل،وعاينت الحلم الوحدوي وهو يتحقق في وطنها الألماني الأم، ويتمدد في طول القارة الأوروبية وعرضها من ستة دول مؤسسة إلى سبعة وعشرين دولة.وفي سنة ألفين وخمسة ،أصبحت ميركل أول مستشارة لألمانيا.

اشتهرت ميركل بالتأني في اتخاذ القرارات،وتفضيل الخطوات الصغيرة في معالجة القضايا السياسية بدلا من القفزات الواسعة،وفاجأت ميركل الآخرين بطريقتها في التعامل مع أزمة تدفق اللاجئين السوريين إلى أوروبا،واتخذت قرار حاسم بقبول اللاجئين، رغم المخاطر السياسية الواسعة لمثل هذا القرار.

إذن،ليس عبثا،أن توصف ميركل "بالأم" "وأم اللاجئين".لكن مقارنتها "بتتاشر"بريطانيا،ليست دقيقة. فميركل ليست حليفة"الريغانية"العسكرية،وهي ليست تاتشر التي هدمت دولة الرفاه الاجتماعي،ودمرت القطاع العام والنقابات لصالح النيوليبرالية.

غير أنه قدر لميركل أن تقود القاطرة الاتحادية في العقد الأخير، تحت ضغوطات وتحديات عاتية. كالأزمة الاقتصادية في بعض دول الاتحاد وفي طليعتها اليونان، والأعباء المالية المتأتية عن التحاق دول الشرق غير المؤهلة للانخراط العاجل في الدولاب الاقتصادي لغرب القارة، وحشود المهاجرين واللاجئين من عوالم الجنوب، وتفشي النزعات والتيارات الانفصالية المجافية للاتجاه الاتحادي، التي بلغت ذروتها بخروج قطب أوروبي ودولي رفيع المكانة والمقام بحجم بريطانيا.

ميركل التي ترأست الحكومة الألمانية،لأربع دورات.منيت مؤخرا،بهزيمة حزبها وحلفائها في الائتلاف الحاكم،في ولايتي"هيسن غرب ألمانيا وبافاريا"،غير أن ما دق ناقوس الخطر لدى ميركل،هو فقدانها السيطرة على حزبها،وشعورها بأن جزءا مهما من ناخبي الحزب انتقلوا للتصويت للأحزاب اليمينية المتطرفة، كحزب البديل من أجل ألمانيا.

وأكثر ما يخيف ميركل في ذلك،أنه يعكس ما يمور في العمق من تفاعلات عنيفة للتحولات الألمانية الداخلية،فيما خص بالشعبوية الصاعدة بتأثير من إدارة ترامب،والمدعومة من جيران الشرق وعلى رأسهم فلاديميير بوتين،وفيكتور أوربان.وارتدادات العولمة،والميول الجامحة لجيل ألماني يميني النزعة،ونموذجه حزب البديل الألماني. بما يعني أن المشروع الأوروبي الذي بقيت ألمانيا وفرنسا كالقلعة المحاصرة في الدفاع عنه،قد يسقط ويتهاوى. وبما يحمل من نكوص إلى الأسوأ في تاريخ الأمم،وإلى الحنين إلى أمجاد التاريخ الشعبوية ذات الأثر الأفيوني.

ولخص خطاب ميركل التي أعلنت به،نهاية حياتها السياسية، هذه النقاط،فقد قالت ميركل:"

لقد صار من شبه المستحيل الاستمرار في منصب المستشارية في ظل هذا الحصار الداخلي والخارجي الخانق.

ففي الخارج تعاني الديمقراطيات الأوروبية تهديد الشعبوية الروسية التي لا تكن أي احترام للمعايير السياسية والديمقراطية، فيما تمارس عليها الشعبوية الحاكمة  في واشنطن، ابتزازاً بعد آخر.ولقد تحول جيران لنا في النمسا وإيطاليا،إلى أحصنة طروادة للشعبويّتين المذكورتين

 

 

أمّا في الداخل، فلا أذيع سراً حين أقول أن القوى المتطرفة تقوى بإيقاع يومي. وهي لا تقتصر على “حزب البديل من أجل ألمانيا” وتنظيمات نيو نازية صغرى، بل تحرز مواقع متعاظمة داخل حزبنا .وهذا يعني،أننا لم نتعلم بما فيه الكفاية من تجربتنا المريرة مع النازية والحرب. فالاستعداد لرفض الآخر، على ما دلت تجربة اللجوء، لا يزال خصبا جداً، ما يشير إلى عطل عميق لم تتمكن حياتنا الديمقراطية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية من تذليله..

لكن- والكلام لميركل-  علي أيضاً أن أعترف بأنه كان في وسع ضحايا الظلم والحروب الذين لجأوا إلينا أن يساعدونا أكثر .وهنا لا أستطيع إلا أن أسجل ظاهرات بالغة السلبية لم تستطع أغلبية الألمان أن تهضمها، كالممارسة الدينيّة الفاقعة في الحيز العام، وطريقة التعاطي البالغة الذكورية والأبوية مع المرأة.

وهكذا، تأتي حقبة "موتي" ميركل، كما هي معروفة شعبياً بالكلمة الألمانية التي تعني "الأم"، إلى نهاية هادئة وبلا ألَق..
ولن يكون تعريف إرث ميركل المحلي سهلا، لأنه مرتبط وثيقا باستجاباتها للأزمات الرئيسية التي ابتليت بها أوروبا. ويبدو التناقض صارخا بين ما قامت به ميركل وبين مواقف قادة آخرين مثل رئيس وزراء المجر، فيكتور أوربان، الذي لا ينظر إلى المهاجرين بوصفهم بشرا في حاجة إلى المساندة والدعم والرحمة، بل على أساس أنهم مسلمون يهددون بتقويض "الجذور المسيحية للقارة الأوروبية"، على حد وصفه، و"تجب حماية أوروبا منهم.فيما دافعت ميركل عن الإسلام ،باعتباره جزءا لا يتجزأ من ألمانيا،وهو الأمر الذي وضعها في مواجهة انتقادات من داخل حزبها المسيحي الديمقراطي الذي ترأسه.

وسيكون تعريف إرث ميركل في الشرق الأوسط مراوغا بالمقدار نفسه، بسبب الكيفية التي حافظت بها على ظهور قليل في مجال السياسة الخارجية.

amm

التعليقات

Developed by MONGID | Software House الحقوق محفوظة مفوضية الإعلام والثقافة © 2024