الرئيسة/  مقالات وتحليلات

على هامش رحيل «دار الصياد» في لبنان

نشر بتاريخ: 2018-10-09 الساعة: 10:25

عبير بشير لم تكن "دار الصياد" بمطبوعاتها المتنوعة، من "صحيفة الأنوار"، إلى مجلة "الصياد"، إلى مجلة "الشبكة"، سوى جزء من مشهد عام متدفق، كانت الصحافة اللبنانية كلها تمثله، وكانت دار «الصياد» صرحا قويا في مشهد صحافي لبناني زاخر، كان يميز بيروت، وكانت تتميز به، وطبع لبنان الحديث. ولم يكن يتوقع أحد أن تسقط قطعة جديدة من لبنان، بتوقف دار "الصياد" عن النشر، وتوقف صحيفة الأنوار عن الصدور، وهي التي عمرها من عمر الاستقلال اللبناني غير الناجز! ولتعلن بذلك، أن أشياء كثيرة انتهت في لبنان، منها السياسة، والشعر، والمسرح، والاقتصاد.
كانت "الأنوار" في البداية، جريدة جمال عبد الناصر في لبنان، وكان صاحبها الصحافي سعيد فريحة، ناصريا حتى العظم، لكنه عرف مع أفول شمس الناصرية، كيف يحافظ على جريدته ويني مؤسسة ضخمة، قبل أن يتهاوى كل شيء.
"دار الصياد" اليوم ، و"السفير" بالأمس، إنه عالم الصحافة الورقية الذي يتهاوى في لبنان، تاركا وراءه تاريخا طويلا من النضالات، وإرثا ثقافيا هائلا.
لم تتوقف صحيفة السفير، بسبب ضائقةٍ اقتصادية وقعت فيها، رغم قلة الإعلانات وتضاؤل حجم قراء الصحافة الورقية، ونفوذ الإنترنت. وإنما لأنها، كما شقيقاتها البيروتيات، ظلت تعتمد، بشكل غارق، على المال السياسي، وقد مرت في أطوارٍ عديدة، قذّافية وعرفاتية وخليجية وحريرية وغيرها. لقد امتازت "السفير" خلال عقود، في التعبير ببراعة عن شخصيتها المستقلة، رغم توجهاتها السياسية المعروفة. وفي تظهير حيزها الخاص، واللعب على هوامش واسعة، تحركت فيها الأقلام والآراء من كل ألوان الطيف برشاقة، ولم تكن بها آثار المال السياسي فاقعة، أو ظاهرة بالشكل المنفر. لكن عندما انعدمت هذه البراعة، وصار الوضوح، كل الوضوح، هو المطلوب، ذهبت الصحيفة إلى نهايات مؤسفة. ويجوز القول إن "السفير" قد توقفت عن الصدور فعليا في العام 2011، عندما انحسر فيها الرأي الآخر، بشأن الثورة السورية، وآلام السوريين، وبدأت فجأة مناوأة الصحيفة لتطلعات السوريين إلى الحرية. 
كانت "السفير" منبرا للفنون والأدب، ومنصة واسعة للقومية العربية، وفي نفس الوقت، كانت منفتحة، على تعدد الحساسيات الثقافية والإبداعية. غير أنها أفرطت في حيثياتها السياسية، إلى حد الذوبان والأفول.
ويشهد قطاع الصحافة في لبنان أزمة متفاقمة – كما في العالم - ترتبط أساسا بتوقف التمويل العربي إلى حد كبير، فضلا عن ازدهار الصحافة الرقمية، والمواقع الإلكترونية، وزيادة سلطة الإنترنت، وتراجع عائدات الإعلانات، ما دفع مؤسسات عدة إلى الاستغناء عن صحافيين وموظفين يعملون فيها منذ عقود. كما أن مسألة التوريث وضعت صحفا عريقة في أيدي أشخاص لا علاقة لهم بالإعلام.
ويقول الأكاديمي الدكتور أمين كركي، إن عدم اهتمام جمهور الشباب بالمطبوع، والتغيير في أنماط التفكير والقراءة لدى مجتمع المعرفة، وانتصار ثقافة الحصول المجاني على كل شيء، كلها مجتمعة تشكل اليوم الأسلحة التي يتمسك بها الداعون إلى نهاية عصر قراءة الصحف.
ويدفع الصحافيون الثمن الأبهظ جراء أزمة تمويل وأزمة توريث الصحافة المكتوبة في لبنان، فالمئات من الصحافيين وجدوا أنفسهم عاطلين عن العمل، والمئات الآخرون يعيشون على وقع التهديد بنفس المصير في غياب هيئات أو منظمات مهنية تدافع عن حقوقهم وتضمن عدم ابتزازهم من قبل أصحاب مؤسسات إعلامية يتصرفون فيها على أنها شركات تجارية ربحية.
ويرى الكاتب المرجعي جهاد الزين، بأن "المال السياسي" أحدث كسلاً يمكن أن نعتبره تاريخياً في الصحافة اللبنانية. فقد أحدث رخاء منذ العهد الناصري السعودي في الخمسينات إلى العهد القذافي الصدامي الجزائري الخليجي في السبعينات ثم الخليجي الإيراني في التسعينات، غير أننا اليوم نكتشف حجم الكسل الناتج عن ترهل العلاقة بالسوق الحقيقية. إذاً خصوصية المال السياسي، هي التي أحدثت كسلاً، يمكن اعتباره أحد المعوقات التي حالت دون تطوير محتوى ووظيفة الإعلام، لكي تصمد أما التغيرات التي شهدتها السوق اللبنانية، وثورة الاتصالات والإنترنت، التي غيرت الكثير من القواعد والمرتكزات التي كانت سائدة.
كما يمكن اعتبار تضاؤل الإعلان السياسي التجاري في لبنان، وجها آخر لأزمة الإعلام اللبناني، بشكل عام، وأزمة الصحافة الورقية بشكل خاص. وجوهر الأمر، أن القارئ الحقيقي أو المشاهد الحقيقي الذي عرفته لبنان على مدار عقود، هو الذي تراجع فسبّب تراجع الإعلان. لقد كانت صداقات وعداوات الصحافيين والإعلاميين اللبنانيين الكبار، هي في الواقع، عداوات بعض الدول العربية، وعداوات رؤسائها. وكان هؤلاء الرؤساء هم الذين يصنعون مجد الصحف اللبنانية، بغض النظر، إذا كانوا في موقع العدو أو الصديق، لأنهم تعاملوا مع الصحيفة، بأنها في غاية الـتأثير والخطر. هذا النوع من القراء- الرؤساء، أو القارئ العدو والقارئ الصديق... انقرض، بمعنى آخر أن المال السياسي، والإعلان السياسي، قد انقرض أيضا.
ومع أزمة كبيرة تواجه صحيفة "النهار" العريقة أيضا، يصير السؤال ملحاً عن أي لبنان يبقى، بعد حال الصحافة اللبنانية المنهك، والانتكاسة التي تتعدى الصحافة الورقية، إلى عالم الإعلام بكليته، من مسموع إلى مرئي إلى مكتوب، لتكشف بذلك، أزمة الدور اللبناني في المنطقة وتراجع بيروت عن الريادة وعن الإنتاج الثقافي. ولكن هذا الحال مجرد واحد من تعبيرات بؤس لبنان كله، حيث رثاثة السياسة وركاكتها، وركاكة طبقتها السياسية، وحيث يشهد لبنان انهياراً مبرمجاً لمؤسسات الدولة، ولعل عجز الرئيس المكلف سعد الحريري عن تشكيل حكومته الجديدة، أوضح دليل على ذلك.
وفي الختام، من الصعب الجزم بموت الصحافة الورقية في لبنان، غير أنه مطلوب بشكل عاجل ثورة في إدارة التحرير، وإدارة التوزيع والتسويق، والإدارات العليا في المؤسسات الصحافية. وتبقى مقولة ونستون تشرشل عندما قال يوما «إن إنكلترا قد تتخلى عن مستعمراتها عبر البحار لكنها لن تتخلى عن جريدة التايمز".

amm

التعليقات

Developed by MONGID | Software House الحقوق محفوظة مفوضية الإعلام والثقافة © 2024