الرئيسة/  مقالات وتحليلات

السلطان أردوغان والقس برانسون

نشر بتاريخ: 2018-08-27 الساعة: 09:09

عبير بشير بعد أن حفر رجب طيب أردوغان مكانة استثنائية، يمكن اعتبارها الأولى بهذه الأهمية في تاريخ الجمهورية التركية بعد زعامة مصطفى كمال أتاتورك التأسيسية، بدأت مؤشرات بدء تصدع هذه الزعامة وربما سقوطها الدراماتيكي، وذلك مع انتقال تجربة «حزب العدالة والتنمية» من الصعود إلى الانحدار بالمعنى التاريخي للكلمة، ليس فقط لأن الديمقراطية التركية بمشروعها التحديثي المتميِز عن محيطها المسلم، باتت تواجه تحديا وجوديا، وهو مدى قدرة أردوغان وحزبه على قبول واقع خسارتهم للنخبة الليبرالية التركية الطليعية، وتحولهم إلى أكثرية عددية مؤقتة، وقضاء أردوغان على الجزء السياسي من التحديث والنموذج التركي، وذلك بعد أن أجهز على القدر الذي كان صاعدا وواعدا، من الديمقراطية التي أوصلت حزبه الديني المحافظ إلى السلطة في نظام علماني، وسط ترحيب من مثقفين علمانيين ويساريين وليبراليين أتراك. 
بل مع الأسف، بدأت الآن مؤشرات على تهاوي النمر الاقتصادي الإسلامي - تركيا -، مع بروز الأزمة المالية الاقتصادية الجديدة، والتصعيد الذي يسيطر على العلاقات بين أنقرة وواشنطن، حيث صرح الرئيس الأميركي دونالد ترامب بأنه ينوي اتخاذ تدابير إضافية ضد تركيا، على خلفية أزمة اعتقال أنقرة للقس الأميركي اندرو برانسون التابع للكنيسة الإنجيلية.
فبعد أسابيع من إعادة انتخاب أردوغان سلطانا لتركيا، شهدت الليرة التركية، هبوطاً تاريخياً، وانحداراً دراماتيكياً، مقابل الدولار الأميركي، لم يعرف مثيله الاقتصاد التركي، بعد انخفاضها أكثر من أربعين في المائة منذ بداية العام، حتى قبل تطبيق العقوبات الأميركية، مع التذكير بأن الرسوم الجمركية على الألمنيوم والحديد الصلب التركي، التي فرضتها إدارة ترامب، ليست كامل القصة في الأزمة التي تعصف بالاقتصاد التركي بل جزء منها.
فحين وصف الرئيس التركي إسرائيل بأنها «الدولة الأكثر عنصرية في العالم» على خلفية قانون القومية، رد نتنياهو بأن تركيا تحت حكم أردوغان، أصبحت ديكتاتورية ظلامية.
فأردوغان الذي برع في لعبة الانتخابات وتصفية الخصوم، تبدل سريعاً، وجاءت المحاولة الانقلابية الفاشلة قبل عامين، والتي وصفها أردوغان – بالضارة المفيدة -، لتعجل في انقلاب الرجل على صورته الحقيقية، انقلاباً كاملاً. 
لعله يحصد ثمار المعركة التي خاضها ضد الانقلابيين في وقت قياسي، فوجه آخر لكماته إلى المؤسسة العسكرية التي كانت الحارس التاريخي للنظام العلماني، وشن حملة تطهير شرسة في صفوف قادة الأجهزة العسكرية والأمنية، وفي الإدارات العامة، انتهت بتطهير ما يزيد على مائة وخمسين ألفاً من وظائفهم، وأطلق حملة اعتقالات واسعة في صفوف الصحافيين والمحامين والقضاة وكبار موظفي الدولة، وأزال حدود الفصل بين السلطات، فأحكم قبضته على القضاء ووسائل الإعلام، وأقفل العشرات منها قائلا إنها تتبع الدولة الخفية. 
ولقد أغلقت مغامرات أردوغان السياسية، في الإقليم في السنوات الأخيرة، منافذ عديدة كان يتنفس منها الاقتصاد التركي، كالتجارة مع سورية والعراق ومصر، وساهمت السياسات الابتزازية التي استخدمتها مع الاتحاد الأوروبي، في ابتعاد الاستثمارات الطويلة الأمد من السوق التركي، كما هربت الرساميل الضخمة، نتيجة ضبابية النظام السياسي، وقبضته الأمنية، وقيام نظام الزعيم الواحد. 
ولم تسلم الليرة التركية التي ضعفت كثيرا، بسبب قبضة الرئيس التركي المتصاعدة على الاقتصاد، وضغوطه على البنك المركزي، 
مع تعدي مديونية الشركات التركية ثلاثمائة وأربعين مليار دولار، ثم تسليم الرئيس أردوغان بعد فوزه صهره بارات ألبيرق وزارة المال.
ولم يتأخر أردوغان الذي أسقط خصومه وحلفاءه، الواحد تلو الآخر، معتمداً على نجاحاته في إحداث قفزات اقتصادية لبلاده، وكانت تذكرته أيضا لعبور النافذة الدولية، توجيه أصابع الاتهام إلى وجود مؤامرة كونية، وإلى الغرب الإمبريالي. 
وقال خلال المؤتمر السنوي لحزبه «العدالة والتنمية» في أنقرة: «لن نرضخ لأولئك الذين يقدمون أنفسهم على أنهم شركاؤنا الإستراتيجيون - أميركا - في حين يسعون إلى جعلنا هدفاً استراتيجياً. وتابع: البعض يعتقد أن بإمكانه تهديدنا عبر الاقتصاد، العقوبات، أسعار الصرف، معدلات الفوائد والتضخم. لقد كشفنا خدعكم ونحن نتحداكم.
جزء آخر من القصة، وهو عندما تفكك الاتحاد السوفياتي وانهارت الشيوعية، تلاشت الوظيفة الإستراتيجية لتركيا في منظار واشنطن.
وكان الحديث عن قرب خروج أميركا من المنطقة يعني تركيا تحديدا، ولعل عاملين ساهما في إبطائه أو تأخيره: وهما زيادة جرعة الأسلمة في الحكم التركي، وتحول الثورة السورية من صراع بين النظام ومعارضيه إلى حرب على الإرهاب. 
غير أن المحاولة الانقلابية الفاشلة، كانت النقطة الفاصلة بين تركيا والولايات المتحدة، فأنقرة كانت مقتنعة بأن الأميركيين متورطون وشركاء غير مباشرين للانقلابيين، وفي أضعف الإيمان كانت تتوقع  إنذارا أميركياً مبكراً لإجهاض المحاولة كونها دولة حليفة، في حين رفضت الإدارة الأميركية تسليم غولن المقيم في الولايات المتحدة إلى تركيا لمحاكمته. 
وسبق ذلك، مرحلة المد والجزر في العلاقات بينهما، وتمحورت حول هواجس أنقرة، إزاء التحولات في شمال شرقي سورية والتسليح الأميركي للأكراد في إطار «قوات سورية الديموقراطية». 
ومنذ ذلك الوقت، راحت العلاقة الأميركية التركية تقتصر على محاولات لترميم التصدعات..
ولم يكن متوقعا لقضية القس الإنجيلي الأميركي أن تتفاقم إلى حد تسميم العلاقة بين الدولتين، إلا أن ترامب المدين انتخابياً للأميركيين الإنجيليين، صعد الموقف، إلى حد المطالبة بإطلاق سراح القس – فورا - ثم مباشرة فرض عقوبات على تركيا.
ورد أردوغان بالتهديد بالتحول من معسكر إلى آخر، ودعا واشنطن إلى التخلي تماماً عن الفكرة التي تتبناها بأن علاقاتها مع تركيا يمكن أن تكون غير متناظرة، وعليها الاعتراف بأن تركيا لديها فسحة من البدائل الأخرى، ومن حقها البحث عن أصدقاء وحلفاء جدد!
وفي حقيقة الأمر فالذي انتهى في تركيا أردوغان هو مشروع المصالحة بين الإسلام والحداثة، المشروع الوحيد في العالم الإسلامي التاريخي الذي كانت لديه فرصة كبيرة للنجاح على مدى عقود، لإقامة ديمقراطية سياسية عتيدة، على قاعدة اقتصادية نمرية، كل الظروف كانت مهيأة لذلك، لكن كل هذا انتهى الآن تحت حكم الرجل الواحد، وعادت تركيا دولة تشبه محيطها المسلم: دولا بلا أفق ديمقراطي وتتعثر اقتصاديا.

amm

التعليقات

Developed by MONGID | Software House الحقوق محفوظة مفوضية الإعلام والثقافة © 2024