الرئيسة/  مقالات وتحليلات

لبنان الاستثناء، وانتخابات غير استثنائية

نشر بتاريخ: 2018-05-02 الساعة: 08:40

عبير بشير لطالما شكل لبنان استثناء في كل شيء: الجغرافيا، الطبيعة الخلابة، بحره الأزرق بالقرب من جباله الخضراء، تعدد طوائفه، نظامه السياسي والاقتصادي الهجين، حيث يجمع بين الحرية والفوضى، بين الديمقراطية والطائفية والعائلية، بين البذخ والثراء الفاحش والفقر المدقع، بين العصبية المذهبية والانفتاح، بين المدنية والعسكرة، بين الإنفاق غير المبرر والمديونية الهائلة، ويتصدر المشهد اللبناني أزمة الكهرباء والنفايات، وحالياً اختراع قانون انتخابي نسبي بالصوت التفضيلي غير موجود إلا في لبنان.
لكن الكيان اللبناني يبقى صامداً بفضل أحد سببين: إما أنه محصّن بحماية، أو بقوة فوقية، أو أن بقاءه حاجة دولية، وفي الحالين يبقى لبنان المعجزة.
وكان الفيلسوف الفرنسي سارتر غير مؤمن بفكرة الانتخابات، ويسخر من ديمقراطيتها البراقة، وعلى الرغم من غرابة انتقاد سارتر لظاهرة الانتخابات في بلد عريق في ديمقراطيته مثل فرنسا، لكن سارتر الذي قال: «أنا أكرهك يا محبوبتي فرنسا» بسبب توجهاتها الاستعمارية، وصاحب الكتاب الشهير «الوجود والعدم» كان يدرك أن اللعبة الانتخابية تظلّ هي نفسها سواء في بلد ديمقراطي أو ديكتاتوري، ما دام الذين يمسكون بمقاليد الحكم هم أنفسهم، الذين يديرون ألاعيبها ويبرمون الصفقات الانتخابية تحت شعارات خداعة. ولبنان الذي هو على موعد مع الاستحقاق النيابي الانتخابي في السادس من الشهر الحالي، بعد انقطاع لتسع سنوات بسبب الأزمة السورية، ربما يكون خير مثال على ذلك، بسبب التوزيع الطائفي والعائلي والميلشياوي، للوائح الانتخابية، بغطاء جميل من الديمقراطية البراقة. 
وبعد مخاض عسير استمر عدة أشهر، صوّت المجلس النيابي اللبناني على قانون انتخابي جديد بدلاً من قانون الستين. وهو قانون مركب ومعقد قائم على النسبية زائد الصوت التفضيلي، ولقد روّج له الرئيس ميشال عون لقناعته بأنه يلغي التوزيع الطائفي الذي اعتمده اللبنانيون خلال عهود طويلة. 
عدد كبير من السياسيين، في مقدمتهم الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، حاولوا إجهاض القانون الجديد لأنه في نظرهم لا يمتلك إطار الإصلاح المطلوب، ولا القدرة على تطوير النظام القائم، واعترف جنبلاط بعجزه عن فهم القانون، معتبراً أن الإلمام بتفاصيله يحتاج إلى دخول مدرسة خاصة، بينما وصف الرئيس السابق ميشال سليمان القانون «بالمسخ» الذي يحتاج إلى تصحيح الشوائب التي فيه.
ومع حسابات القوى الرئيسة التي تخوض السباق النيابي- تيار المستقبل، حزب الله، حركة أمل، التيار العوني - وفق تقديرات ماكيناتها الانتخابية، فإن معظمها يترك هامشاً للمفاجآت بفعل عاملين: القانون الجديد النسبي الذي يتيح للخصوم أن يتمثلوا إذا حازوا الحاصل الانتخابي، والذي يجعل من الصوت التفضيلي للمرشح ضمن اللائحة الواحدة مسألة صعبة التقدير... 
والتغييرات في المزاج الشعبي الناقم على الطبقة السياسية نتيجة تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وحجم فساد النخبة الحاكمة.
هذان العاملان يفرضان تريث الأحزاب الرئيسة في الجزم بقدرتها على تحقيق الأهداف التي تطمح إليها، وبمدى قدرة المنافسين على اختراق لوائحها، وهذا يفسر التحالفات الانتخابية – الغريبة العجيبة- للأضداد الذين لا تجمعهم سوى المصلحة الانتخابية.
وتجهد هذه القوى السياسية إما للحفاظ على أحجامها الحالية أو إلى زيادتها عبر الحلفاء، أو إلى التقليل من الخسائر التي يفرضها القانون النسبي بالصوت التفضيلي. 
ويتوقف المتابعون للمعركة الانتخابية عند جولات زعيم تيار«المستقبل» رئيس الحكومة سعد الحريري غير المسبوقة في المناطق اللبنانية، من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب ومن البقاع الغربي حتى مزارع شبعا، مروراً بإقليم الخروب وطرابلس وعكار والضنية، وهي مناطق كان نظام الوصاية السوري قد حظر دخولها على والده الشهيد رفيق الحريري، خشية من نشوء حالة سنية، وتكريس رفيق الحريري كزعيم عابر للطوائف اللبنانية. فلطالما اعتبرت سورية لبنان، حديقتها الخلفية، وامتداداً جغرافياً لحدودها وخطأً تاريخياً ينبغي تصحيحه، وهي التي لم تعترف باستقلاله إلا حديثاً وعلى مضض، بعدما لعب السُنّة والموارنة، عرّابا الصيغة اللبنانية، أدواراً متكاملة لكن غير متكافئة سياسياً، حتى الإعلان عن اتفاق الطائف: السُنّة كممثلين للمسلمين ببعدهم العربي والإسلامي، والموارنة كممثلين لمسيحيي لبنان بعلاقاتهم الفريدة اقتصادياً وثقافياً، مع الغرب. وقد ساهمت الحريرية السياسية في تمهيد الطريق أمام العمق العربي والإسلامي باتجاه الكيان اللبناني كوطن نهائي للبنانيين.
ويبذل سعد الحريري جهوداً مضنية، من أجل إعادة تثبيت نفسه زعيماً للطائفة السنية، واستنفار قواعد جمهوره الذي انتقل جـزء منه إلى المنطقة الرمادية من الولاء، نتيجة أسباب عدة، بدءاً مــن غيابه القصري عن لبنان لسنوات، مروراً بالتسوية الرئاسية التي عقدها بانتخاب العماد عون رئيساً للجمهورية باعتباره مرشح «حزب الله». وهو لا يمل من التكرار أمام جمهوره، بأن المعركة باتت واضحة بين خطين ومسارين: مسار دولة القانون والمؤسسات، ومسار الهيمنة على قرار الدولة والمؤسسات. مسار حماية البلد من حروب المنطقة، ومسار توريط البلد في حروب المنطقة.
 
فيما يكثف السيد حسن نصر الله من إطلالته التلفزيونية المميزة، لشد عصب أنصاره، وليعلن أن الانتخابات النيابية هي منعطف للاستفتاء على خيار المقاومة وشهدائها والتضحيات التي قدمتها في الساحة السورية !! أما الذي لم يقله السيد نصر الله صراحة، ولكن تقوله أفعال حزب الله، فهي الرغبة في إجراء مراجعة كاملة لاتفاق الطائف بعد الانتخابات، حيث تعتقد كوادر الحزب وقواعده، أن الطائف لم يُنصف الشيعة، بدليل أنه أخذ من صلاحيات الرئيس الماروني ليعزز دور الفريق السنّي داخل تركيبة الوزارة. كذلك أعطى المسيحيين الذين لا يزيد عددهم في لبنان على ثلاثين في المئة نسبة توازي نسبة النصف من عدد المقاعد في البرلمان، والأهم والأخطر أن ما تحصلت عليه الطائفة الشيعية الكريمة من النظام السياسي اللبناني لا يتناسب مع تعملق حزب الله وتحوله إلى دولة داخل الدولة، بسبب كتائبه العسكرية فائقة التسليح والتي تتفوق على الجيش اللبناني، وميزانياته المالية المليارية المرصودة من نظام ولاية الفقيه، وفي هذا الإطار يعد حزب الله، هو ثاني مانح للرواتب في مختلف الوظائف، بعد الجيش اللبناني، كما أنه يأتي في الترتيب الأول للجهات التي تتولى تقديم مختلف أنماط المعونات الاجتماعية في بيئته الشيعية. 
وعلى كل حال، الانتخابات النيابية اللبنانية المرتقبة، لن تحمل التغيير الإيجابي، ليس فقط بسبب القانون الانتخابي الجديد المعقد، وطغيان المرشحين من أصحاب الملايين فحسب، بل لأن التغيير ذاته أصبح مرفوضاً من قبل أكثرية اللبنانيين الخائفين من أن أي تغيير حقيقي في الوضع القائم أو ثورة ديمقراطية تأتي عن طريق صناديق الاقتراع، حيث تلقى ثورات الخريف العربي بأشباحها الثقيلة على مزاج الناخب اللبناني وخياراته.
والأهم أن اللبنانيين يعيدون إنتاج نوابهم من دون أن يحاسبوهم، بل هم يغضّون الطرف عن فسادهم وعن صفقاتهم المشبوه، وذلك لأن الأولوية هي لتحقيق الانتصار على مواطنيهم الخصوم، مذهبياً أو طائفياً، وهم ينتخبون بروح القطيع لتبقى الطائفة ويبقى الزعيم، حتى المواطنون الذين ترتفع أصواتهم قبل الانتخابات، معترضين على ظروف حياتهم الصعبة، وعلى الفقر والبطالة، والفساد السياسي، يتناسون أمام صندوق الاقتراع كل ذلك كرمى لعيون زعيم الطائفة. 

amm

التعليقات

Developed by MONGID | Software House الحقوق محفوظة مفوضية الإعلام والثقافة © 2024