الرئيسة/  مقالات وتحليلات

عن "الاستتباع" و"الاستلحاق" في علاقة اليسارين العرب بثنائية "العسكر والإسلاميين"

نشر بتاريخ: 2018-03-03 الساعة: 10:47

عريب الرنتاوي من يتتبع تفاصيل علاقة اليسار العربي بخاصة، والعلمانيون العرب بعامة، بحركات الإسلام السياسي بجناحيها السنّي والشيعي، تحديداً بعد انتهاء الحرب الباردة، وبالأخص في السنوات العشر الفائتة، لا بد يلحظ أنها سلكت مسارب ثلاثة: الأول؛ ويتميز بـ"الاستتباع" و"الذيلية"، سيما بإزاء تيارات الإسلام السياسي الشيعي "المقاوم" ... والثاني؛ ويتميز بالنبذ والإقصاء سيما مع تيار الإسلام السياسي السني، الإخواني بخاصة، ربما باستثناء حركة حماس، مقابل "الاستلحاق" بالدولة العميقة ... والثالث؛ ويتميز بالاستقلالية والتكافؤ والندية، مع أنه مسار ثانوي لم تسلكه سوى فصائل وشخصيات محدودة في حجمها ونفوذها وتأثيرها.

في المقابل، سيجد الباحث المتأمل في خريطة العلاقات الإسلامية – العلمانية، أن تيارات الإسلام السياسي سلكت بدورها مسارات ثلاثة في علاقاتها بالعلمانيين العرب: الأول؛ ويمكن أن نطلق عليه مسار "التوظيف" و"الاستخدام"، حيث لجأت قوى وتيارات إسلامية إلى استغلال الاحتياج العلماني للتحالف مع قوى شعبية نافذة، لتحقيق أغراض أخرى، منها استيعاب المخاوف من النفوذ المتفرد والمهيمن لهذه الجماعات، واستغلال علاقات العلمانيين الإقليمية والدولية بخاصة، من أجل التجسير مع عواصم صنع القرار الدولي ومراكزه، ومنها منع خصوم الإسلاميين من جنرالات و"دول عميقة" من "وضع اليد" على إرث العلمانيين العرب من يساريين وقوميين وديمقراطيين ليبراليين ووطنيين مستقلين.

المسار الثاني؛ ويمكن أن نسميه مسار "الشيطنة" و"التكفير"، إذ تولت حركات إسلامية بمرجعيات مذهبية وفكرية مختلفة، العمل على "شيطنة" هذا التيار و"تكفير" رموزه، توطئة لعزله ونبذه، وإقصائه عن المشاركة في العمليات السياسية والمؤسسات المنبثقة عنها، وحصر نفوذه وتأثيره في مؤسسات الدولة والمجتمع في أدنى حد ممكن.

المسار الثالث؛ وقد أملته بعض توازنات القوى القائمة في الدولة والمجتمع بين التيارين، فجنح الإسلاميون إلى القبول بالعلمانيين من يساريين وقوميين، بل وبشروا بالتحالف معهم، وتداولوا معهم السلطة، من منطلق تعذر الانفراد بالحكم والنفوذ، وبسبب الإخفاق في إعمال مفاعيل نظرية "التمكين" المتجذرة في وعي الحركة الإسلامية وعقيدتها وسلوكها وممارساتها.

توفر تونس أفضل نموذج قائم حتى الآن، على العلاقة المتوازنة بين العلمانيين بمدارسهم المختلفة من جهة والإسلاميين في حزب النهضة، الذي يمثل أكثر "الطبعات الإخوانية" انفتاحاً على قيم المدنية والتعددية والديمقراطية من جهة ثانية... وتوازن العلاقة يعود إلى توازن القوى في المجتمع التونسي، بين جناحي الثورة التونسية... لا دولة عميقة في تونس، ولكن مجتمع عميق، أثبت حتى الآن، أنه قادر على الحد من جموح الإسلاميين للتفرد والهيمنة والتمكين... على أن تونس ذاتها، توفر أيضاً، صورة عن النزعة الإقصائية لليسار الراديكالي، الذي ينبذ الإسلاميين ويناصبهم العداء، ويلوذ إلى الاستقطابات الحادة في نظرته وعلاقاته معهم.

فلسطين ولبنان، قدمتا نماذج لأشكال ومستويات متفاوتة من علاقات "الاستتباع" و"الذيلية" التي نسجها بعض "اليسار المقاوم" مع حركتي حماس السنية وحزب الله الشيعي، وأصبح شعار "المقاومة" اليوم، مثلما كان شعار "لا صوت يعلو فوق المعركة" بالأمس، ذريعة بعض هذه الحركات العلمانية للذوبان والاستتباع والذيلية ... في المقابل، توفر التجربتان، نموذجاً لمسار "التوظيف" و"الاستخدام" الذي تمارسه قوى الإسلام السياسي للتيار العلماني، فهو ينفع كمظلة تخفي الهيمنة و"التمكين"، ويمكن أن يكون "ديكوراً زائفاً" لإخفاء أكثر السياسات الموغلة في مشروع إعادة انتاج الدولة والمجتمع على صورة وشاكلة هذه الحركات الدينية.

قبل أيام، صرح مستشار المرشد العام للثورة الإسلامية، علي أكبر ولايتي، بأن بلاده، متحالفة مع "الصحوة الإسلامية"، يقصد الشيعية بالطبع، لن تسمح للعلمانيين والشيوعين والليبراليين من العودة لحكم العراق، الأمر الذ عُدّ تدخلاً فظاً في شؤون العراق الداخلية وفي انتخاباته، وشفّ عن عميق العداء الذي تستبطنه "الصحوة" للقوى العلمانية، مع أن فصائل وأحزاب وقوى عديدة علمانية، تدافع عن إيران وتتحالف معها وتتمول منها بل وتقاتل إلى جانبها.

الموقف الإيراني الفج، وجدنا نظيراً له، وإن كان مغلفاً بقفازات ناعمة، في خطابات وممارسات الحزب الإسلامي (السني) الحاكم في تركيا وبعض جماعات الإخوان المسلمين في العالم العربي، سيما مع اندلاع ثورات الربيع العربي ... أردوغان نجح في تفكيك قلاع العلمانية الأتاتوركية وإسقاطها الواحدة تلو الأخرى: الرئاسة، الجيش، الجامعة، الإعلام والقضاء... فيما لا يُخفي الإخوان المسلمون، والسلفيون بالطبع، مواقفهم الكارهة للعلمانية والعلمانيين بوصفهم فرقاً ضالة، ومعادية قولاً وعملاً لهم ولفلسفتهم في الحكم والسياسة والاجتماع.

الموقف الإيراني، يؤشر بما لا يدع مجالاً للشك، إلى حقيقة "أن لا مطرح للعلمانيين في خطاب "الصحوة" الإسلامية واستراتيجياتها، حتى وإن كانوا من معسكر الأصدقاء والحلفاء، وأن الصيغة الوحيدة المقبولة للعلاقة معهم، هي الاستتباع والذيلية والاستخدام والتوظيف.

أما الموقف التركي، فيشف عن درس استراتيجي بالغ الأهمية، يرسم علاقة الإسلاميين والعلمانيين، ومفاده أن الإسلام السياسي بشقيه السني والشيعي، لا يمكن أن يتطور مدنياً وديمقراطياً إلا بوجود "معادل موضوعي" له في الدولة أو المجتمع... في تونس توفر "المعادل الموضوعي" بالمجتمع المدني والحركة النسائية والقوى العلمانية القوية ... وفي المغرب تلعب الملكية دور "ضابط الإيقاع" لتطور حركات الإسلام السياسي، من منها في السلطة ومن منها خارجها... وفي تركيا توفر "المعادل الموضوعي" في "الدولة العميقة"، تماماً مثلما هو الحال في مصر كذلك... مصر وتركيا تسيران وإن بتفاوت وسرعات مختلفة، ناجمة عن اختلاف الظروف والسياقات، صوب الديكتاتورية وحكم الفرد، في حين تسير تونس نحو أفق ديمقراطي تعددي على الرغم من المصاعب والتحديات... أما المغرب، فمصير مسار التحول الديمقراطي متروك لتطور توازنات القوى بين قوى التغيير وسلطة القصر.

وتثبت التجربة التركية بخاصة، وبعض تجارب الربيع العربي، أن طريق الإسلاميين العرب للحرية والديمقراطية والتعددية، وحتى "المصالحة مع العلمانية" كما كان عليه الحال في تركيا، ليست طريقاً ذي اتجاه واحدة، فالعودة إلى الوراء يظل أمراً ممكنا إن اختلت توازنات القوى مع "المعادل الموضوعي" سواء أكان كامناً في مؤسسات الدولة أو مبثوثاً في قوى المجتمع ومؤسساته.... سنوات صعود تركيا العشر الأولى من تجربة حكم العدالة والتنمية، كانت محكومة بهذا التوازن الدقيق بين الإسلاميين والدولة العلمانية العميقة، وعندما نجح أردوغان في تفكيك مؤسسات الدولة واختراقها من الداخل، خصوصاً بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة الأخيرة، أطلق العنان لخطابه الإسلامي – المذهبي، وشرع في "أسلمة" مؤسسات الدولة والمجتمع، وإقصاء العلمانيين عن مراكز صنع القرار، ومن ضمن سياقات نظرية "التمكين" ذاتها... اما إخوان، فقد شرعوا في ترجمة سياساتهم الإقصائية، قبل أن يستتب لهم حكم مصر، وما أن وصلوا إلى سدة السلطة فيها.

بعض اليسار والعلمانيين العرب، وأمام الصعود الجارف لتيارات الإسلام السياسي في المنطقة، انتهج طريقاً من اثنين: أما الاستتباع للحركات الإسلامية كما في بعض التجارب (لبنان، فلسطين والعراق)، وإما الاستلحاق بالدولة العميقة كما في تجارب أخرى، وهنا تبرز مصر بوصفها المثال الأفدح على استلحاق النخب العلمانية المختلفة، بالدولة العميقة ومؤسسة الجيش وجنرالاتها، وتبنيها لخطاب إقصائي شديد التطرف حتى حيال أكثر مدارس الإسلام السياسي وسطية واعتدالاً.

في معظم تجارب العلاقة بين الإسلاميين والعلمانيين في العالم العربي في السنوات العشر الأخيرة، فقد اليساريون والعلمانيون لونهم وهويتهم، حتى أنهم ما عادوا يجرؤون على الجهر بعلمانيتهم، ويفضلون استخدام "المدنية" بدل العلمانية" في وصف حركاتهم وأحزابهم، أو في توصيف هوية الدولة التي يطمحون لبنائها ويناضلون في سبيلها... ولا شك أن خسارة العلمانيين العرب لهويتهم واستقلالهم، وتوزع ولاءاتهم وتحالفاتهم على ثنائية "العسكر والإخوان"، أو "الإسلام السياسي والدولة العميقة"، قد أفقدهم القدرة على تشكيل "قطب ثالث" وازن، يحسب له حساب، ولن تقوم لهم قائمة في مسارات التحول والانتقال في منطقتنا، ما لم يعودوا إلى أنفسهم ومرجعياتهم ويحتفظوا لأنفسهم بمسافة واضحة من حركات الإسلام السياسي من جهة، والدولة العميقة بكل أجهزتها الأمنية والعسكرية من جهة ثانية، وإلى أن يتحقق ذلك، سنظل أمام مخاض انتقالي مديد ومرير وباهظ الكلفة.

amm

التعليقات

Developed by MONGID | Software House الحقوق محفوظة مفوضية الإعلام والثقافة © 2024