الرئيسة/  مقالات وتحليلات

في ذكرى مئوية المارد الأسمر

نشر بتاريخ: 2018-01-31 الساعة: 09:45

عبير بشير تمرّ هذه الأيام الذكرى المئوية لمولد جمال عبد الناصر- عظيم المجد والأخطاء-، وأحد أكثر الشخصيات السياسية حضورا وتأثيراً في مسار التاريخ المصري والعربي في العصر الحديث،وبالرغم من مرور نحو نصف قرن على رحيله،إلا أنه يصح القول أنه الزعيم الذي ما زال يحكم من قبره.

كان جمال عبد الناصر قارئا واعيا لحركة التاريخ،وأدرك مبكرا - وبوعي فذ - جوهر الصراع فى المنطقة وما يسمى بالوظيفة –الحضارية- لإسرائيل. تلمس عبد الناصر طريقه للقومية العربية وهو يقاتل في فلسطين عندما حوصر في الفالوجا، وأدرك حجم الفساد القاتل – الأسلحة الفاسدة- وكتب بخط يده :لقد فقدنا ثقتنا فى حكامنا وقياداتنا، وبدا مقتنعا أن تحرير فلسطين يمر من القاهرة، وعندما رجع إليها انضم إلى تنظيم الضباط الأحرار.

ولعل ثورة يوليو، كانت أول ثورة في التاريخ يقودها عسكر تتم بلا دماء ولا قتل ولا إعدامات، كانت ثورة شاملة حدثت من أعلى ثم انتقلت إلى أسفل،وغيرت وجه مصر الاجتماعي والثقافي و السياسي والعسكري .

في القرن الثامن عشر اندلعت الثورة الفرنسية -أمّ الثورات-، لخلع الملكية، بعناوين ومضامين ثقافية واجتماعية وعلمانية ،مهاجمة الإقطاع الطبقي، والسياسي والديني. لكنّ سرعان ما تعمدت بالدماء تحت حراب المقاصل ، فقد اقتيد الملك اللويس السادس عشر وزوجته ماري أنطوانيت إلى المقصلة وهناك قالت كلمتها الأشهر "أيتها الحرية.... كم من الجرائم ترتكب باسمك". كما اكتوت الثورة الفرنسية بالصراعات المسلّحة الدامية عبر عقود طويلة كادت تناهز القرن .وعلى الرغم من أنها بدأت كحركة شعبية كاسحة بمضامين ليبرالية فقد كان شعارها "الحرية والمساواة والإخاء"، إلا أنها سرعان ما تحوّلت إلى موجة دكتاتورية بأيدي أبطالها، وتم التخلص من أيقونات الثورة  كدانتون أو الكونت ميرابو...، ووقف " كارنو" يعلق على مصرع القيادات الثورية واحدا  تلو الآخر بقوله الشهير" إن الثورة دائما تأكل أبناءها".

وتهاجم بعض شرائح المثقفين الثورة الفرنسية، لغزارة ما سفك بها من دماء، ولقد ذهب الروائي الروسي ليوتولستوي إلى القول: لو كانت الغاية من الثورة هي عظمة فرنسا، فانه كان يمكن إدراكها بدون الثورة وإفناء الرجال وثرواتهم، ولو كان الهدف من ورائها نشر الأفكار الليبرالية، فإن المطبعة كانت قادرة على فعل ذلك وأفضل بكثير مما قام به الجنود!

غير أنه في ثورة الضباط الأحرار، لم يقتل الثوار الملك فاروق رميا بالرصاص على غرار الثورة الفرنسية. وما حدث هو العكس، لقد انحاز عبد الناصر ثقافيا إلى رواية تشارلز ديكنز "قصة مدينيتين "وذكر أعضاء مجلس الثورة الذين يريدون إعدام الملك فاروق بنهاية هذه الرواية. وقال، إن "الدم يجلب الدم".وبالفعل تم التوافق على ترحيل الملك سلميا إلى خارج مصر ...وهذا ما حدث.

لذلك كانت الناصرية لحظة مغايرة في تاريخ الثورات العالمية،غير أنه بقي أهم رابط يجمعها بها، وهو الإرث التسلطي،والإدعاء بامتلاك الحقيقة كاملة،وحكم الحزب الواحد، والشخص الواحد، وتكميم الأفواه.

بدا التأثير الناصري عميقا وملهما لقوى اليسار في القارة اللاتينية،رغم ما عانته من الانقلابات العسكرية التي نهبت ثرواتها وقمعت شعوبها بالحديد والنار،فهي لم تتحسس من التناقض بين حماستها وانبهارها بثورة يوليو التي قام ثلة من الضباط المصريين ،وبين عدائها الشديد لحكم وأنظمة العسكر في بلدانها.

كان السر وراء ذلك في قوة"النموذج الإنساني"الذي صنعته الناصرية. فقد لامس عبد الناصر عمق الكبرياء المصرية الجريحة ومعها كل البلدان المقهورة،حينما أعلن تأميم قناة السويس،متحديا أعتى الإمبراطوريات في عصره،لأنه كان يدرك بحس عبقري،أن هذه الخطوة هي الترجمة الفعلية لشعار" التحرر الكامل"،وهي من النوع الوجودي الذي يعيد تأسيس الكينونة الحضارية،وقد وضع تأميم القناة مصر في قلب التفاعلات الدولية والإقليمية. وأدى إلى توقيف موجة الاستعمار وتدشين موجة التحرير في التاريخ السياسي العالمي.

أضاف عبد الناصر إلى الوطنية المصرية آخر رقائقها وأصلب طبقاتها، وقاد مشروعا تحديثيا شاملا.وعلى الرغم من أن المشروع الناصري التحديثي،لم يقترب من الأفق الديمقراطي،ولم ينفتح أبدا على  الأحزاب الوطنية التقليدية بفعل الشك العميق بينهما،غير أنه تبنى أكثر مطالب الحركة الوطنية نبلا مثل، الإصلاح الزراعي،وبناء السد العالي الذي حمى مصر من الجفاف والفيضان،وأضاف ملايين الفدادين إلى الرقعة الزراعية،وبناء جيش وطني مهني،وإنشاء الصناعات الثقيلة على نطاق واسع،والمستشفيات والمدارس،وفرض التعليم النظامي المجاني.

وعلى عكس الثورة العرابية التي جرى القضاء عليها سريعا ونفى فيها عرابي،وثورة سعد زغلول التي أحدثت اختراقا كبيرا في قواعد اللعبة السياسية دون أن تتمكن من تحقيق هدفيها الرئيسيين: الاستقلال والدستور. وثورة يناير،والتي وقف زخمها في منتصف الطريق – فلا النظام القديم أزاحته ولا النظام الجديد بنته- كانت ثورة يوليو الوحيدة في التاريخ المصري الحديث كله التي طرحت مشروعا متكاملا للتغيير.فقد أطلق  جمال عبد الناصر ورفاقه أوسع عملية حراك اجتماعي بثوب اشتراكي شمولي،والتي من شانها أن غيرت معادلة ظلت لقرون تتحكم في رقاب المصريين عنوانها مجتمع النصف بالمائة الذي يمتلك كل شيء،فيما السواد الأعظم يعيشون تحت خط العدم، فنقلت أغلبية المصريين من هامش الحياة إلى متنها.

زعامة عبد الناصر الطاغية لم تولد من فراغ ،وقيادته للعالم العربي لم تولد من عدم، وليس هناك شئ مجاني في التاريخ ،فللزعامة شروطها ،وللأدوار تكاليفها. فهو ابن الوطنية المصرية والقومية العربية في لحظة تحول حاسمة، وهو العاشق لفولتير فيلسوف الحرية، ولجان جاك رسو.كانت القاهرة في عهده العاصمة المركزية للعالم العربى ولحركات التحرر في القارة الأفريقية. وأسس عبد الناصر مع الزعيم الهندى نهرو والزعيم اليوغسلافى تيتو، حركة عدم الانحياز.ولم يساوم عبد الناصر على إنحيازاته الوطنية والتحريرية والقومية، وكانت نزاهته الشخصية هي من رسخت صورته في التاريخ.

ورغم كل ذلك، تعتقد شريحة من المثقفين في مئوية عبد الناصر: "أننا علينا أن نقلع  عن عادة الدفاع والانبهار الأعمى بهؤلاء الرجال العظماء"، تلك المقولة التي استهل بها الفيلسوف البريطاني كارل بوبر كتابه الأيقونة «المجتمع المفتوح وأعداؤه»، والتي تكشف حجم الفجوة بيننا وبين الغرب في استيعاب معنى كلمة حضارة وقيمة كلمة تاريخ.

ويرى هذا التيار، أن الخطاب الثقافي الغربي نجح بفضل إتباعه- نظرية التفكيك- وفعَل ذلك مع قامات سياسية وفكرية كبرى بحجم هيغل وكارل ماركس وأفلاطون..، تملك أطروحاتهم القابلية لاستمرارية، والقابلية لإعادة الإنتاج معرفياً، في حين أن الخطاب الثقافي العربي بشكل عام، فشل  في فعل الأمر ذاته، بفعل نزعته السلفية والعاطفية المفرطة.

في حين يعتقد د.مصطفى الفقي أن الحماس لثورة يوليو لا يكون بالضرورة بحمله ظالمة على العصر الملكي ففيه إنجازات لا يجب إغفالها، فمحكمة التاريخ قد تنصف البعض وقد تقسو على البعض الآخر... وللتاريخ دهاء من نوع خا !.

وإذ ينفي د.كتور الفقي أن يكون من أيتام أو دراويش عبد الناصر، غير أنه يرى أن من الظلم أن نحاكم الرجل بمعايير وقيم عصرنا،فهو ابن تاريخه وعصره.

ويبقى جمال عبد الناصر- المارد الأسمر- صاحب الثنائية الأشهر في التاريخ الحديث "الزعيم الأسطوري"و" الرئيس المهزوم "، وصاحب التناقض الأكبر "اتساع مشروعه ونبله" "وضيق نظامه وقمعه". وهو الذي اكتسب صفة «آخر العمالقة» ــ بتعبير الكاتب الأمريكى  سيروس سالزبرجر، أو كما قال شاعر العرب محمد مهدي الجواهري "عظيم الأمجاد والأخطاء".

amm

التعليقات

Developed by MONGID | Software House الحقوق محفوظة مفوضية الإعلام والثقافة © 2024