الرئيسة/  مقالات وتحليلات

أغانٍ وطرب

نشر بتاريخ: 2023-08-13 الساعة: 09:48

أغانٍ وطرب
عبد الغني سلامة
 

أحبُّ سماع الراديو أثناء قيادة السيارة، فأتجول بين عشرات المحطات المحلية، باحثاً عن أغنية جميلة، ولكن دون جدوى، فتنتابني رغبة جامحة لأن أجمع كل المسؤولين عن اختيار الأغاني في تلك المحطات وأطرح عليهم سؤالاً واحداً: «من وين جايبين هذا الذوق الهابط؟!». أما حين أكون في «الباص»، ويجبرنا السائق على سماع موجة من الصراخ المزعج، فأتمنى لو أُمسكُ بأصحاب تلك المحطات، (مع السائق) وأحشرهم في غرفة ضيقة دون شباك، في عز الصيف.
لماذا في العشرين سنة الماضية لم يَعلَق في وجداننا سوى بضع أغنيات؟ رغم أن عدد المطربين العرب أكثر من الهم على القلب! بينما في القرن الماضي ظهرت عشرات الأغنيات الرائعة، التي ما زلنا نرددها حتى اليوم، ونطرب عند سماعها كل مرة! لماذا شهد ذلك العصر بزوغ نجم عمالقة الفن والطرب، ثم أخذ مستوى الأغنية العربية يهبط تدريجياً، حتى صارت بالكاد تصلح لسهرة عرس، أو للتحريض على «طوشة»، ويكفي سماعها مرة أو مرتين بالكثير! وأحياناً يفضل عدم سماعها بالمرة.. أيْ أن مدة صلاحيتها قد لا تتجاوز الخمس دقائق، في حين أن الأغاني الطربية ما زالت حاضرة بكل بهائها وجمالها رغم مرور أكثر من خمسين سنة على صدورها!
يقول المختصون في سوسيولوجيا المجتمعات: إن لكل جيل ذائقته الفنية الخاصة به (التي يعتقد جازماً أنها الأفضل). فمثلاً حين ظهر «عبد الوهاب» رفضه سدنة الجيل السابق، واحتاجوا وقتاً طويلاً ليتفهّموا ثورته الموسيقية الجديدة، ثم يتوجوه «موسيقاراً للشرق»، اليوم، الكثير من أبناء الجيل الحالي لا يستسيغون أغانيه.. حتى أنه حين لحّن لأم كلثوم «إنت عمري» لم يتقبل البعض إيقاعها الجديد والمختلف كلياً عن اللحن التقليدي الذي سارت عليه لسنوات طويلة بصحبة «السنباطي».
ما الذي ساهم في صناعة أولئك العمالقة؟ هل هو الجهد الشخصي، والملَكَة، والموهبة أم توافر جملة من العوامل الموضوعية لم تعد موجودة اليوم؟ للإجابة، سنطرح بعض الأمثلة:
لم يحظَ عبد الحليم في بداية مشواره بأي دعم، ولم يلتفت إليه أي ملحن مهم، لكنه شق طريقه بنفسه، حتى أنه في أول حفلة له رمى عليه الجمهور «بكسة بندورة» (وهذه كذبة بالطبع)، ويقول النقاد: إنه لم يكن صاحب الصوت الأحلى، لكنه كان صاحب الصوت الأذكى والإحساس الأصدق؛ فقد كان يغني من قلبه قبل حنجرته.. لذلك صار كل من يسمعه يشعر كما لو أنه يغني له شخصياً، وصار «معبود الجماهير».
امتلك فريد الأطرش موهبتَي الغناء والتلحين، وصار ملك العود، وموسيقار الأزمان، وكذلك أخته أسمهان التي تركت إرثاً عظيماً في فترة قصيرة، حيث غيّبها الموت مبكراً.. وأيضاً فايزة أحمد بصوتها الجياش الذي يقطر أسًى وعذوبة، وميادة الحناوي مطربة الجيل، وهناك أيضاً نجاة الصغيرة بصوتها الهامس الذي يلامس أوتار القلوب في عذوبة تمنح فرصة التحليق في أجواء العشق، وهؤلاء أتوا من سورية وانطلقوا من القاهرة، التي كانت قبلة الفنانين وموئل الفن والطرب. ولكن القاهرة ليست الشرط الأساسي للنجاح؛ فيروز صنعت كل مجدها في لبنان، وكذلك وديع الصافي. ناظم الغزالي لم يغادر بغداد، وسعدون جابر لم يغنِّ بغير اللهجة العراقية، وبالمثل طلال مداح.
نلاحظ أن فناني الزمن الجميل (لنتفق مبدئياً على هذه التسمية) قد اعتمدوا على موهبتهم ومثابرتهم قبل أي شيء آخر، وأقصى ما كانت تقدم لهم الدولة من دعم، هو تقديمهم عبر الإذاعة والتلفزيون، بينما تتوافر لمطربي الجيل الحالي تقنيات إعلامية هائلة تعطيهم فرصة الانتشار وعبور الحدود بأقل تكلفة، بالإضافة للبرامج المتخصصة بدعم واكتشاف المواهب الشابة بعد أن تدربهم وتصقل موهبتهم وتصنع منهم مشاهير بفترة قياسية، وتقوم باحتكارهم والمتاجرة بهم من خلال عقود الحفلات، وبالتالي تضيع تلك المواهب، وتصبح امتداداً لما هو موجود في الساحة من فن هزيل (باستثناء محمد عساف).
من مطربي ذلك الزمن الجميل أيضاً وردة الجزائرية، التي تكاد تنازع أم كلثوم بعبقرية فنها، وعفاف راضي بصوتها الحنون الرقيق، وشادية قيثارة الغناء العربي، وهاني شاكر أمير الطرب.. وفي الجيل الحالي هنالك عشرات الأصوات المميزة والقوية، وأصحابها موهوبون حقاً (إذْ إن قوة الصوت ونقائه وعذوبته لا تختص بعصر معين)، ولكن ما الذي يمنعها من أن ترتقي أكثر، وتقدم أغنية طربية حقيقية! حتى أن فنانين معاصرين كباراً، أمثال كاظم الساهر، ماجدة الرومي، محمد منير، وغيرهم، رغم كل إبداعاتهم إلا أنهم ما زالوا دون مستوى الجيل السابق.
يقول بعض النقاد: إن أزمة الأغنية الحديثة تكمن في ضعف الكلمات. علماً أن ديوان الشعر العربي مفتوح على مصراعيه لأي فنان، ومن ناحية ثانية، فإن الكثير من الأغاني الطربية الخالدة كلماتها ساذجة وسطحية، ومع ذلك حفظناها وأحببناها. ومن الجدير بالذكر أن معظم الأغاني المصرية بالذات قد تميزت بكلماتها المباشرة والواضحة والسهلة، خلافاً للأغاني الخليجية واللبنانية (بالذات فيروز) التي تميزت بالكلمات العميقة والصور الشعرية الحالمة والتشبيهات المجازية، حتى في الأشعار العاميّة.
يقول الموزعون ومقاولو الفن: إن الجيل الحالي لا يحب الأغاني الطويلة، ونزولاً عند رغبتهم، صارت الأغاني قصيرة، وسريعة.. وعلى ما يبدو وقع مطربو الجيل الحالي في هذا الفخ، وصاروا أسرى للأغنية السريعة، التي تخلو من المقاطع الموسيقية. الملحنون الكبار، أمثال الأطرش، وبليغ، والسنباطي، وعبد الوهاب، والموجي وغيرهم كانوا يفردون مساحات شاسعة في ألحانهم للموسيقى، وينوعون في المقامات للأغنية الواحدة، ويتنقلون في الألحان والمقاطع برشاقة وعذوبة تسحر الألباب.. وربما يتجنب الملحنون المعاصرون المغامرة بأغنية طربية طويلة، مليئة بالموسيقى، لأنهم عاجزون عن ذلك، ولأنهم محكومون باشتراطات شركات التوزيع، وهذا ما انعكس سلبياً على المطربين أنفسهم.
الأغنية الأصيلة لا تُنجَز بيوم وليلة (كما يحدث الآن)، والفنان الحقيقي لا يحتاج «فيديو كليب» بمؤثرات بصرية «تقلب طاقية مخنا».. يحتاج ثقافة موسيقية، وإحساساً صادقاً قبل الموهبة.. ثم يحتاج إلى لحن وكلمات ومنتج لديه التزام نحو الفن.
المعضلة ليست في قِصر الأغنية، أغلب أغاني فيروز قصيرة؛ بل في رغبة مقاولي الحفلات وشركات التوزيع بالثراء السريع.. حتى لو كانت النتيجة إفساد الذوق العام.

mat

التعليقات

Developed by MONGID | Software House الحقوق محفوظة مفوضية الإعلام والثقافة © 2024