الرئيسة/  مقالات وتحليلات

ثورة المؤبدات وطائر الصدى

نشر بتاريخ: 2022-08-31 الساعة: 22:08


عيسى قراقع

 

أعلن يوم 27/8/2022 أكثر من 4600 أسير فلسطيني خطوات نضالية تصعيدية متدرجة قد تصل إلى أكبر إضراب جماعي مفتوح عن الطعام لمواجهة الإجراءات التعسفية والقمعية التي يتعرضون لها وتنتهك كافة حقوقهم الإنسانية والقانونية، الأسرى وجهوا نداءً يطالبون بمساندتهم ومناصرتهم وإعلان حالة الاستنفار الشعبي والمؤسساتي ودعم مطالبهم وخطواتهم على كافة المستويات المحلية والإقليمية والدولية.
إنها ثورة المؤبدات وتمرد المقهورين والمقموعين والضائعين والمهدورة أعمارهم خلف القضبان، طفح الكيل في تلك السجون البغيضة وصار الموت أهون من السجن تحت بساطير السجانين ومنظومة القمع العنصرية والإذلال، فالسجن يسلب الكيان الإنساني يوماً يوماً وسنة وراء سنة وبأشكال عديدة من القهر والتعذيب والمرض والقتل إلى سحب الاعتراف بقيمة الإنسان ودفعها إلى مستوى دون خط البشر، استباحة الحقوق والكرامة، التعامل معه كأنه لا شيء، تمارس عليه كل أنواع البلطجة والبربرية والفاشية الصهيونية، والمطلوب أن يستسلم الأسرى الفلسطينيون ويعلنون الطاعة والخضوع كي يستسلم الوطن ويسقط مفهوم الرمز ومعاني الوطنية والحرية والانتماء.
بلغ عدد الأسرى الفلسطينيون المحكومين بالسجن المؤبد أو عدة مؤبدات 551 أسيراً، يقضي 38 أسيراً من بينهم أكثر من 25 عاماً، أقدمهم الأسرى كريم يونس وماهر يونس ونائل البرغوثي، والمؤبد في الحكم الإسرائيلي هو مدى الحياة، حتى الأبد وانتهاء العمر، حتى الذبول والتلاشي، فالمؤبد هو دنيا الأسير وآخرته، المؤبد هو تأبيد الاستعمار وقلع الشعب الفلسطيني من المكان والزمان، فالاحتلال يسعى أن يكون احتلالاً مؤبداً، ويسعى أن يبقى الأسرى تحت سطوة مؤبداتهم في هذا القبر العميق المظلم، قبراً للحرية والأحرار.
المؤبد مشروع سياسي وعسكري وأيديولوجي، بديلاً عن أفران الغاز وحرق البشر، بديلاً عن حبل المشنقة، هو الموت البطيء الناعم الذي يوصلك إلى مرحلة الفناء ماشياً على قدميك بلا اتجاه وبلا حدود، لا مكان للاختباء، لا مكان للصعود أو الهبوط، يجردك من كل أسلحة الدفاع، ليكون المؤبد حفار العقل والإدراك والإرادة وإنهاك الجسد والقوة الداخلية، إنهاك الذات، ترى قبرك قبل أن تموت، وترى القيامة أمامك، ولا مجال للمفاوضة أو المقاومة.
الأسرى المحكومون بالمؤبدات يتساءلون عن مصيرهم، لا محطة للوقوف، لا هدنة في المؤبد، لا محكمة إنسانية ولا عدالة تطل عليهم، لا سحابة في السماء، زمن مفتوح، حياة بلا وقت، يكبرون ويشيخون ويموتون في نفس المكان، يمتصهم الجدار، لا أثر لهم، أصبحوا بعيدين بعيدين، كأنهم لم يكونوا أصلاً، لم يولدوا، نموهم الجسدي والعاطفي والعقلي يتشكل داخل دائرة مغلقة، عادات وسلوك ونظام وأفكار تتكون تحت نظام السيطرة والقمع والملاحقة، لا شجر لا هضاب ولا بحر، اليوم هو الغد، والغد هو اليوم، التكرار واجترار الذكريات والوقوف على العدد 3 مرات يومياً، التفتيشات والنقل من سجن إلى سجن، عالم الزنزانات والبوسطات والأغلال والحجرات المسيجة، عالم الضرب والغاز المسيل للدموع ورؤية العالم الخارجي من خلف الزجاج البارد أو من على الشاشات.
المؤبد هو نظام الفصل العنصري الأبارتهايد، الرصاصة والحاجز والمستوطنة، الدبابة والصاروخ والانفجار والاقتحام والمداهمة، النهب والسلب والهدم والتعذيب في الأقبية، لا حيز لك في المؤبد، لا جغرافيا ولا بيت ولا ذكريات، لا دولة صغيرة ولا دولة كبيرة، لا سيادة لك على حياتك، المؤبد يملك حياتك ويقرر مصيرك وفق قانون القومية أو الولاء أو الضم أو لائحة إدارة السجون، أو وفق تعليمات الإعدامات الميدانية المتصاعدة، كل ما فيك لم يعد لك.
المؤبد ليس له طبيب للعلاج، لا حبة دواء، لا عناية ولا رعاية، المؤبد هو مرض السرطان في أجساد الأسرى، هو النظرة القومية المتعالية، هو الجنازة والمشيعين والطقوس وبيت العزاء والحداد، هو الدولة، هو القانون، هو التوراة المسلحة، الأسطورة والبندقية والتخيلات التي لا تراك.
الأسرى المؤبدات ينظرون في المرآة، كم يكرهون المرآة، ملامحهم، طفولتهم وشبابهم ونضارتهم وابتساماتهم قد اختفت، يشيخ الحارس والباب والأسير لا يدري كيف يكبر، يصدأ الحديد ويتجدد، اكتشافات وتكنولوجيا وثقافات وفيضانات وزلازل واحتفالات وعلاقات دولية والأسير واقف في المؤبد، لا علاقة تربطه مع أحد سوى القيد وسجان يعشق العتمة.
الأسرى يحطمون المرايا وينتفضون، يجرحون أجسادهم كي يروا دم المؤبد ولونه وطعمه، يحرقون المؤبد من عقولهم، يستعيدون ما سرقه من ذكرياتهم وأحلامهم، يبحثون عن مسافة أخرى توصلهم إلى النهاية، يستخدمون الملح والجوع والسحر والنبوءات ويستدعون الزعماء والرؤساء ومسؤولي مؤسسات حقوق الإنسان، يريدون شباكاً كي يرونا، يريدون ابتسامة من قمر حقيقي يشهد على وجودهم ومكانتهم وأن لهم موقعاً في السلام وفي حق تقرير المصير.
الأسرى المؤبدات يثورون الآن، حملوا نعوشهم على رؤوسهم لمواجهة الموت خارج توقيت المؤبد، رفضوا الخنوع حتى لا يسيروا في جنازاتهم طواعية ويدفنون في صمت المذبحة أو في الأرشيفات العسكرية بلا أسماء، خلعوا الجدران عن أجسادهم، أرادوا اكتشاف أن هناك دنيا غير دنيا المؤبد، أرادوا أن يعرفوا أسباب بقاءهم طوال هذه السنوات، تحليل لغة السلام والاستقرار وحل الصراع، تحليل قرارات الأمم المتحدة والشعارات العاطفية، يحتاجون إلى حرارة المسدس في الكلمات، يحتاجون إلى مؤمنين ثوريين يوقفون هذه الكارثة الإنسانية التي تسمى أحكام المؤبد، يريدون أن يخرجوا من الصور والرتابة والأغاني، أن يعيشوا ككل البشر في هذا الكون بلا زنزانة تعانقهم حتى الأزل.
الأسرى المؤبدات وصلوا إلى الحائط الأخير، لا الحرب أعادتهم إلى عائلاتهم ولا الصفقات ولا السلام، تعرضوا لآلاف الطعنات، المساومة والمقايضة وفرض الاشتراطات الأمنية والتضييقات، ملفات حمراء وخضراء، صمدوا كثيراً، قرأوا كثيراً، صنعوا زمناً آخر لهم فيه حياة مؤقتة، صبروا وانتظروا، تحملوا كل الضربات، ولكن لم يأت أحد ليوقف المؤبد وينقذ الأسرى من غبار الغاز وعواء الكلاب البوليسية، العزل وضجيج التفتيشات والهراوات وكآبة الأيام المتشابهة، هم لم يتغيروا نحن تغيرنا، فقدنا جزءاً من مشاعرنا وانطفأنا، ولا زلنا لا نقاطع القضاء العسكري ونمثل أمام المؤبد في تلك المحكمة.
الأسرى المؤبدات يثورون على سياسة الإذعان وسياسة الانتظار، عمر الإنسان وحقوقه لا تؤجل، يثورون على هؤلاء الذين حاولوا أن يجمعوا بين السجن والسلام فوجدوا أنهم مقيدين في سلام السجن والخيبة والاغتراب، فلا شيء في المؤبد إلا المؤبد، لا ينتهي ولا شيء يبدأ، يعطيك كل الوقت ويأخذ وقتك كله، كما قال الأسير ناصر أبو سرور، يطحنك السجن ولا يظل منك سوى قميصك البني، وصورتك الباهتة، وما كتبته في دفاتر السجن إلى أمك الصابرة.
الأسرى المؤبدات يثورون على المؤبد، على المحكمة العسكرية الإسرائيلية، على الجيش والشرطة والمخابرات وهذا التحالف الحربي الذي يشن حرباً وعدواناً عليهم على مدار الساعة، يثورون على القوانين العنصرية الجائرة التي تتعامل معهم كحقل تجارب على فئران مذعورة، الانصياع وهندسة السلوك والعقل والتدجين وتفكيك الوطن من أعماقهم والهوية والمقاومة.
كيف نصل إلى تلك المعادلة المترابطة: من يحتجز أسيراً يحتجز وطناً وتاريخاً وثقافة وذاكرة؟ من يغلق الحياة على إنسان مناضل يغلق بلد، من لا يقفز عن السياج ويحفر تحت اسمنت المؤبد ليس له فضاء ولن يسمع أغنية.
الأسرى المؤبدات يثورون على المؤبد، يحررون زمنهم القادم كي يصلوا المستقبل، يكتبون الآن روايتهم الجماعية الأخيرة، يخرجون من غموض المؤبد، يخاطبون أجيالاً وفتية ولدوا بين حاجز ومستوطنة، يخاطبون المدن والقرى والمخيمات وكل البشر، يصرخون فينا أن نتحرر من الانهزامية والعجز والمرض الكياني، أن نتحرر من الانقسام والتشطي لندرك أن خلف الباب قناص، خلف كاميرا المراقبة جندي يجيد إطلاق الرصاص، خلف البنك الدولي والمساعدات أجهزة للتطبيع والتحوير تتعامل معك كغريزة أو جثة تمشي على أربع.
الأسرى المؤبدات يدقون جدران المؤبد، يحطمون هذه الماكنة التي تهرسهم منذ سنوات، يجب تغيير المفاهيم والاعتقادات، يجب وقف هذه الحرب على الإنسان التي تستهدف تحويل الإنسان إلى شيء آخر غير الإنسان، إنقاذ الروح التحررية، إنقاذ حصانة الشرعية النضالية الوطنية للشعب الفلسطيني، اليقظة الذهنية، القفز عن السور الذي يسمى المؤبد، الخروج من الأقفاص، فلا شيء أسوأ من المؤبد والعبودية، ولا شيء أسوأ من أن تترك حياتك تتعفن في السجن ليقودك المؤبد إلى المقبرة، كونوا أيها الناس كمثل طائر الصدى الذي يخرج من هامة الأسير يحلق ويصرخ حتى يسقط القاتل وتتحرر الضحية.

mat

التعليقات

Developed by MONGID | Software House الحقوق محفوظة مفوضية الإعلام والثقافة © 2024