الرئيسة/  مقالات وتحليلات

المسيحيون العرب.. نكون أو لا نكون!

نشر بتاريخ: 2022-05-29 الساعة: 13:10



عبد الله السناوي

يستدعي استشهاد الصحافية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة برصاص الاحتلال الإسرائيلي إرثاً سياسياً للمسيحيين العرب يذخر بالمواقف والتضحيات دفاعاً عن القضية الفلسطينية والاستشهاد في ميادينها.
كان المطران هيلاريون كبوشي رمزاً لامعاً لجيل النكبة والمقاومة، ساعد بقدر طاقته وظروفه في دعم المقاومة المسلحة.
قرب منتصف سبعينيات القرن الماضي اعتقل أثناء محاولته تهريب أسلحة إلى الداخل الفلسطيني المحتل.
قضى أربع سنوات رهن الاعتقال قبل أن يذهب إلى المنفى في الفاتيكان حتى لقي ربه.
في تلك السنوات كان اسمه كافياً للشعور بالاعتزاز ومواقفه جديرة باحترام العالم العربي كله.
هو سوري الجنسية وفلسطيني الهوى.
على خطى المطران كبوشي مضى بطاركة ورهبان آخرون على الطريق نفسه، يتصدرهم الآن المطران الخمسيني عطا الله حنا.
بصوت مدوٍ يدعو في جميع المحافل إلى زوال الاحتلال «لكي ينعم شعبنا الفلسطيني بالحرية التي يستحقها».. «الطريق إلى السلام يمر عبر القدس، فلا سلام دون القدس، ولا سلام دون عدالة».
هو ابن كنيسة القيامة، كما هو ابن فلسطين.
لم تكن مصادفة أن أعداداً كبيرة من المثقفين المسيحيين لعبت أدواراً ملهمة في تأسيس منظمات الكفاح المسلح، التي نشأت بعد هزيمة حزيران 1967، أبرزهم الدكتور جورج حبش مؤسس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ورفيقه وديع حداد الذي تمكن «الموساد» من الوصول إليه بالسم.
المسيحيون العرب مكون جوهري في الملحمة الفلسطينية.
هذه حقيقة نهائية لا يصح المجادلة فيها بالجهل والتجهيل.
دفعوا فواتير النكبة وعذاباتها كما دفعها بقية الفلسطينيين، قاوموا الاحتلال باسم الوطنية الفلسطينية وقدموا شهداء كثيرين، كانت شيرين آخرهم.
لا ينكر أدوارهم سوى متعصب أو جاهل لا يدرى شيئاً عما يجري في فلسطين المحتلة ولا طبيعة القضية الفلسطينية كقضية تحرر وطني من احتلال استيطاني عنصري جاثم قبل أي شيء آخر.
باتساع الأفق الإنساني على التنوع الطبيعي في مجتمعاتها تكتسب القضايا الكبرى قدرتها على الإلهام والتأثير.
«نحن هنا رغم الأذى والجحود..
مواكب تمضي وأخرى تعود..
نحن هنا نفجر الإيمان في دربنا نورا
فينمو في ثرانا الوجود».
هكذا لخص الشهيد الشاعر والمناضل كمال ناصر الإرادة الفلسطينية قبل أن يجري اغتياله في نيسان 1973 بالعاصمة اللبنانية بيروت فيما أطلق عليها «عملية فردان» مع رفيقيه كمال عدوان وأبو يوسف النجار.
أطلق عليه الزعيم الفلسطيني صلاح خلف: «ضمير الثورة الفلسطينية».
دفن حسب وصيته إلى جانب صديقه الحميم غسان كنفاني الروائي الفلسطيني الأشهر.
كان ذلك حال القضية الفلسطينية في أوقات تبلور المعاني الكبرى.
لا تفرقة بين مناضل وآخر حسب العقيدة الدينية، فالدين لله وفلسطين لأبنائها.
يستلفت الانتباه في اليوميات الخطية لجمال عبد الناصر، التي كتبها أثناء حرب فلسطين، أن أعداداً كبيرة من الضباط والجنود الأقباط قد شاركوا في تلك الحرب ودفعوا فواتير الدم.
بين هذه الأسماء الضابط كمال بشارة، وقد شارك عبد الناصر تجربة الحياة والموت والنوم فوق بطانية واحدة والتغطي بأخرى.
كانت ثقة عبد الناصر فيه بلا حد والإعجاب بنسقه الأخلاقي والعسكري سجله بخط يده حين وبخ بشارة من تورطوا في التمثيل بجثث القتلى اليهود في منطقة المحجز يوم السبت ٢ تشرين الأول 1948.
لا توجد معلومات عن مصيره، أو إذا ما كان عبد الناصر قد فاتحه في الانضمام للضباط الأحرار، الذي أعاد تأسيسه بعد العودة من ميادين القتال.
كان خلو التنظيم من أي شخصية تنتمي إلى الديانة المسيحية مادة اتهام.
لم يكن الاتهام في موضعه بالنظر إلى ما كتبه قائد «الضباط الأحرار» عن الحرب وأبطالها وضحاياها.
«مات الشاويش جرجس» ــ كما كتب متألماً.
في المشرق العربي نشأت قبل النكبة أحزاب أسسها مسيحيون، أخذت زخمها بعدها، كميشيل عفلق مؤسس حزب «البعث العربي الاشتراكي» وأنطون سعادة مؤسس الحزب «السوري القومي الاجتماعي».
تتفق أو تختلف مع حزب أو آخر، مع سياسي أو آخر، مسيحي أو غير مسيحي، لكن الحقائق الأساسية تفرض كلمتها الأخيرة.
وقد بدت تلك الكلمة مدوية في مصر، إثر توقيع اتفاقيتي «كامب ديفيد» بالمواقف التي اتخذها «البابا شنودة الثالث» رأس الكنيسة الوطنية المصرية.
«أنا آخر البابوات العظام الذين قالوا للمحتل الأجنبي: لا».
هكذا وصف الصورة التي أراد أن يدخل بها التاريخ.
في التفاتة رجل لديه حس استثنائي بالتاريخ أغلق ذات حوار بيننا جهاز التسجيل.
سألني: هل تعتقد أن كل الدول العربية والإسلامية سوف تعترف بإسرائيل؟.
أجبته على الفور: لا.
قال: إذن لن أذهب إلى القدس أبداً.
كانت تلك درجة أكثر تشدداً في رفض التطبيع مع إسرائيل، أو زيارتها، أو السماح للأقباط بالحج إليها.
في البداية قال: لن أزور القدس إلا مع شيخ الأزهر.
ثم فكر في احتمال أن يزور شيخ الأزهر المدينة المقدسة، وأن يكون الرأي العام العربي غاضباً ومعترضاً.
رأى أن الأوفق ألا يزورها حتى لو ذهب إليها شيخ الأزهر.
عندما ذهب أنور السادات العام 1977 إلى القدس مانع شنودة في الذهاب معه، ثم حسم أمره سريعاً في رفض اتفاقيتي «كامب ديفيد» (1978)، وما يترتب عليها.
كانت حسابات البابا أن مجاراة رئاسة الدولة في سياساتها المستجدة قد يدفع قطاعات واسعة من الرأي العام العربي، في مصر بالخصوص، إلى التشكيك في الانتماء العربي لأقباط مصر.
«لسنا خونة الأمة العربية» على ما دأب أن يقول باعتزاز.
عندما كان عليه أن يختار بين رئاسة الدولة والرأي العام فيها، اختار بلا تردد أن يصطدم مع السادات، مدركاً أنه إذا ما جاراه في التطبيع فسوف تلحق بالأقباط أضرار أفدح لا يمكن تداركها وشروخ لا يمكن ترميمها في النسيج الوطني.
تصادم ذلك الموقف مع مصالح بعض العائلات القبطية، التي لها صلات بالولايات المتحدة ومصالح محققة في الغرب، متصورة بالوهم أن حماية الأقباط في علاقات دافئة مع إسرائيل.
«الحج لكنيسة القيامة الآن خيانة للمسيح».
أدار معركته بثقة في قوة مركزه وضرب بقبضة البابوية من سماهم «المتأمركين الأقباط».
كنت من الذين نصحوا البابا ــ عند منتصف تسعينيات القرن الماضي ــ أن يدخل المواجهة بنفسه، يلقي بثقله في ميادينها، أن يكون هو بقضيته موضوع المواجهة.
حسم المواجهة بأسرع من أي توقع وحاز في الوقت نفسه على شعبية كبيرة في العالم العربي.
وصفته قبل أن تمتد الحوارات بيننا بـ«البابا العربي».
أرسل سكرتيره الصحافي طلعت جاد الله برسالة مختصرة: البابا يريد أن يراك.
كان يدرك أن حماية الرأي العام المصري والعربي قادرة على صيانة الكنيسة من التفكك والضعف.
مطلع القرن الحالي سألته: هل أنت مطمئن يا قداسة البابا إلى أن من سوف يأتي بعدك سوف يلتزم بتوجهاتك الرئيسة في رفض التطبيع مع إسرائيل حتى لا تكون هناك فتنة أو اتهامات لأقباط مصر بأنهم خونة الأمة العربية، على ما تحذر دائماً؟.
كانت إجابته: لا تقلق، فما أعبر عنه هو التيار الرئيس داخل الكنيسة المصرية، وهذه مدرسة لي فيها تلاميذ أوفياء سوف يحملون الراية بعدي.
بقوة الحقائق الثابتة يصعب التفرقة بين مسلمين ومسيحيين في سردية القضية الفلسطينية.
إنها قضية مصير، لا تقبل القسمة، فإما نكون أو لا نكون.

mat

التعليقات

Developed by MONGID | Software House الحقوق محفوظة مفوضية الإعلام والثقافة © 2024