الرئيسة/  مقالات وتحليلات

قراءة في مفردات وبعض الغموض في وعد بلفور

نشر بتاريخ: 2021-10-31 الساعة: 16:26

 

باسم برهوم


في مقال سابق، قلت إن الأطراف والأشخاص الذين صاغوا وعد بلفور قد تبادلوا ست نسخ أو مسودات قبل أن يضعوا النسخة النهائية، لذلك فإن كل كلمة في الوعد تم اختيارها بعناية شديدة ولها معنى سياسي دقيق، بالرغم من بعض الغموض الذي تعمده الصاغة بهدف تمريره على الجهات المختلفة.

فالوعد الذي تضمن 67 كلمة باللغة الإنجليزية، هو تلخيص لمشروع استعماري كبير وخطير، يشير إلى عملية معقدة يتم خلالها اختراع شعب هو "الشعب اليهودي"، الذي حتى ذلك التاريخ لم يكن موجودا في الواقع، إنما كان هناك يهود من مختلف الأعراق والجنسيات من أتباع الديانة اليهودية.

وتضمن المشروع، ضمن عملية تزوير معقدة، إقامة وطن قومي للشعب اليهودي، الذي تم اختراعه للتو، إقامة هذا الوطن على أرض ووطن شعب آخر، ولن تتم إقامة الوطن القومي اليهودي إلا عبر نزع ملكية الأرض ونزع الشعب الفلسطيني من أرضه وتشريده من وطنه. فالمشروع البلفوري لا يمكن أن يتم إلا عبر عملية نقل كبيرة للسكان (عملية تطهير عرقي) وإحلال سكان جدد مكانهم بالقوة. ولأن المشروع بهذه الخطورة والتعقيد تم استخدام مفردات منها، على سبيل المثال:

اولا: كلمة  "العطف" عندما يقول الوعد، ان حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف لإقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين. كلمة العطف لم تكن في المسودات الخمس الأولى، استخدام هذه الكلمة في النسخة الأخيرة يهدف الى إعطاء بعد إنساني، وكأن الوعد قد جاء لمساعدة اليهود الفارين من الاضطهاد الروسي آنذاك، كما أن استخدام كلمة عطف يمكن من خلالها تمرير الوعد مع قيادة الثورة العربية الكبرى، كأن المقصود هنا مجرد تسهيل دخول المهاجرين اليهود من روسيا وشرق أوروبا إلى فلسطين للإقامة فيها مع نوع من إدارة ذاتية مستقلة لهم وهو الأمر الذي لاقى قبولا في البداية. كما تم استخدام كلمة "عطف" بهدف أخذ الشرعية الدولية والقانونية للوعد من عصبة الأمم  وهو ما تم بالفعل لاحقا.

ثاتيا: استخدام تعبير "في فلسطين"، أي إقامة الوطن القومي اليهودي في فلسطين، استخدام هذا التعبير بهذا الغموض كان مقصودا، فمن خلاله قد يبدو أن عملية إقامة الوطن القومي اليهودي ستتم على جزء من فلسطين وليس كلها، في حين فهمت الحركة الصهيونية أن الوطن القومي سيقام على كل فلسطين، وكانت هذه الحركة تتحدث عن خارطة تشمل فلسطين كلها بالإضافة إلى شرق نهر الأردن حتى خط سكة حديد الحجاز، وتشمل أجزاء من جنوب سوريا وجنوب لبنان. 

كما ترك استخدام "في فلسطين" مبهما، كي يتم تمرير الوعد على الأطراف الأخرى، بحيث تعتقد أن الوطن القومي لن يأخذ إلا مساحة صغيرة من فلسطين، مع العلم أن خاريطة فلسطين كما نعرفها اليوم رسمت بالاتفاق بين بريطانيا وفرنسا في عام 1919، عندما تم رسم خارطة سايكس بيكو على أرض الواقع.

ثالثا: كلمة "تسهيل"، التي ترد في النص هكذا: وستبذل، والمقصود الحكومة البريطانية، كل جهودها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، أي إقامة الوطن القومي اليهودي. "تسهيل" هنا تبدوا وكأن  دور الحكومة البريطانية سيقتصر على بذل جهود سياسية ودبلوماسية على الساحة الدولية والإقليمية تسهل على الحركة الصهيونية عملية إقامة الوطن القومي. ولكن عندما يحدد صك الانتداب الصادر عن عصبة الأمم عام 1922، ان مهمة دولة الانتداب الأساسية هو تنفيذ وعد بلفور وإقامة الدولة اليهودية يؤكد أن دور بريطانيا هو أكبر بكثير من مجرد تسهيل، وإنما هو دور فاعل ومسؤول عن إقامة الدولة اليهودية في فلسطين.

رابعا: استخدم مصطلح "حقوق مدنية ودينية" عندما يقول الوعد "على أن لا يؤتى بعمل من شأنه أن يتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بهل الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين"، هذا يعني أن من يعيشون في فلسطين من غير اليهود لا يعترف بهم كشعب مكتمل الهوية الوطنية، وبالتالي لا حقوق سياسية لهم كالحق بتقرير المصير أو الحق بالاستقلال الوطني. فالوعد يحصر الأمور بالحقوق المدنية والدينية، أي ذات نظام الملل الذي كان سائدا في الإمبراطورية العثمانية، وهو الحق الطبيعي بالحياة والسكن والعمل، وممارسة الشعائر الدينية بحرية.

بالمقابل أعطى الوعد "الشعب اليهودي" الذي تم اختراعه للتو كافة الحقوق السياسية بما فيها حق تقرير المصير في فلسطين.

خامسا: كلمة "المقيمين" عندما يتحدث الوعد عن الطوائف غير اليهودية، فهذا المصطلح لا يعبر عن حق المواطنة وإنما مجرد الإقامة التي قد تفقدها هذه الطوائف في أي وقت من الأوقات في المستقبل، وهو ما تم بالفعل لاحقا عندما تم تشريد الشعب الفلسطيني خلال حرب 1948.

وهنا نعلم أن إسرائيل تتعامل مع الفلسطينين داخل الخط الأخضر بأنهم مقيمون، سكان مقيمون  والأمر ذاته لسكان القدس الشرقية المحتلة، التي قامت إسرائيل بضمها بطريقة غير قانونية.

إن استخدام كلمة "مقيمين"  في الوعد يأتي في نفس سياق حصر الحقوق السياسية وحق تقرير  المصير بالشعب اليهودي، كما حافظ الوعد حتى على حقوق وأوضاع اليهود السياسية في باقي دول العالم. فالسؤال هنا: أي مشروع عنصري وإحلالي أكثر من هذا الوعد الذي اختصر كارثة الشعب الفلسطيني وأكبر عملية إحلال شعب مكان شعب آخر بـ 67 كلمة؟

ولا بد من التذكير أن قانون يهودية الدولة، الذي أقره الكينست الإسرائيلي عام 2018، هو النسخة الأخيرة الأكثر وضوحا لوعد بلفور، وهو القانون الذي حصر حق تقرير المصير بالشعب اليهودي على ما سماه "أرض إسرائيل"، وهي أرض لم يحددها القانون ولم يضع لها حدودا مرسومة، بمعنى أن السياسة التوسعية الصهيونية قابلة للتمدد، وإلى أين يمكن أن يصل جيش الاحتلال الإسرائيلي.

mat

التعليقات

Developed by MONGID | Software House الحقوق محفوظة مفوضية الإعلام والثقافة © 2024